يعد تيار من الباحثين أن العنف ظاهرة إنسانية "طبيعية"، فالعنف – في رأيهم - موجود في التاريخ البشري كله، لذلك تعامل كثير من الفلاسفة مع العنف كحالة طبيعية، رغم ما في هذا القول من تناقض.


قد يستغرب بعضهم من القول إن العنف لم يكن موضوعا مستقلا للتأمل والتفكير الفلسفي في التراث الإنساني، حتى وقت قريب. فالمصادر التاريخية تفيد بأن بداياته الأولى كمبحث مستقل للدراسة تعود إلى عام 1908، مع المفكر الفرنسي جورج سوريل في كتابه "تأملات حول العنف". وهذا لا ينفي وجود بعض الإشارات المتناثرة للموضوع في هذا التراث، فـ"العنف هو أبو وملك كل شيء"، بحسب الفيلسوف اليوناني هرقليطس، وهي العبارة نفسها التي خلّدها الفيلسوف فريدريك إنجلز؛ رفيق كارل ماركس في متن البيان الشيوعي (1848) بقوله: "العنف هو قابِلة التاريخ".


يمكن القول إذاً، إن دراسة العنف كظاهرة اجتماعية وليدة زمن الحداثة بامتياز، فقد أصبح سؤال العنف من أكثر الإشكاليات الفلسفية والسياسية اشتغالا داخل المتون الفلسفية الحداثية، منذ نيكولا مكيافيلي إلى اليوم. ونجد أن معجم لالاند الفلسفي يرادف بين العنف والاستخدام غير المشروع، أو على الأقل غير الشرعي (القانوني) للقوة. وحين نضع هذه المفاهيم بمعية أخرى من قبيل المواطنة والحرية والمساواة في سياقها التاريخي، ندرك تماما بأننا في الحقبة الحديثة من تاريخ البشرية.


أما العنف كممارسة بشرية متجذرة في التاريخ الإنساني، فمن حقائق التاريخ أنه رافق البشرية منذ مهدها الأول، في قصة صراع ولدي آدم. وأخذ نطاقه في الاتساع بعد اقترانه بالسياسة؛ فالعلاقة بين العنف والسياسية قديمة قدم السلطة الشرعية في المجتمع الإنساني المنظم. وعادة ما يتحول العنف إلى سلاح في يد المعارضة التي تختلف مع السلطة، إذ بمجرد وصول الأولى إلى مرحلة إنكار شرعية الثانية، يصبح الطريق مفتوحا لممارسة العنف، الذي قد تتصاعد وتيرته لتتخذ صورا متعددة، ترمي في النهاية إلى قلب النظام السياسي، وإحلال نظام آخر محله يعتمد رؤية مختلفة للعالم.


تدريجيا، بدأ الموضوع يفرض نفسه على دوائر البحث، بعدما عم طوفان العنف البشري العالم المعاصر، وانتشر في البر والبحر والجو بأيدي الناس، واستفحل معه عنف الطبيعة بِحَرِها وبردها وعواصفها وفيضاناتها وزلازلها وبراكينها. لكن بإمكاننا أن نتبين أن عنف الطبيعة في أحيان كثيرة يكاد يكون أهون من عنف البشر، بحيث تبدو الطبيعة أرأف وأرحم في عنفها بالبشر من بني جلدتهم.


•    العنف: "تطرف الرأي" و "تطرف الفعل"


لقد صار العنف أحد موضوعات العصر بلا منازع، فهو حاضر وبدرجات متفاوتة في المجالات كلها؛ في السياسة والاقتصاد والدين، كما في الثقافة والإعلام والرياضة... خاصة بعدما تعدى نطاقه فكرة "العنف المشروع" الذي تحتكره الدولة - استنادا لمبدأ قانوني يعبر عن الإدارة الجماعية التي يتنازل فيها الأفراد عن جزء من حريتهم للسلطة التي يختارونها، وتمثلها الدولة - إلى "العنف غير المشروع"، الذي يستند على اختلاف الهوية، الممزوج بهالة السعي نحو التحكم والسيطرة بإقامة الأنا، ونفي حق الآخر (الغير) المخالف والمختلف في الوجود.


أدرك المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم هذه الحقيقة المرة مبكرا، فكتب يصف القرن العشرين؛ وتحديدا الحقبة الممتدة ما بين 1914 و1991، في كتاب غني وضخم، بأنه "عصر التطرفات" (1994).لكن هذه المحاولة التأصيلية للتطرف، المؤطرة بنفس ماركسي واضح، التي قدمها الراحل على امتداد الأقسام الثلاثة للكتاب، أضحت اليوم قاصرة عن استيعاب كل ثنايا هذا المفهوم الإشكالي الملتبس، بعد كل ما لحقه من تحولات طارئة، منذ أواسط الربع الأخير من القرن العشرين.


توالت الأبحاث والدراسات حول المسألة بشكل ملفت، فلا أظن أن ظاهرة اجتماعية معاصرة، في حقول الدراسات الإنسانية حظيت، وما زالت تحظى، بالاهتمام والدراسة في مختلف فروع العلوم الإنسانية، مثل ظاهرة التطرف، وبشكل خاص "التطرف الديني" الذي بات مقترنا بالإرهاب العالمي المعاصر. فالمتطرف، بحسب الفيلسوف الأمريكي إريك هوفر، في كتابه "المؤمن الصادق" (1954)، يعد أي قضية يعتنقها قضية مقدسة، وليس بالإمكان إبعاده عنها بالمنطق والنقاش.


اهتدى تيار من الباحثين الأمريكيين المختصين في قضايا الإرهاب، مستغلين هذا التراكم البحثي النوعي؛ نتيجة التداخل بين مختلف الحقول المعرفية، إلى إيجاد تمييز بين نمطين من أنماط التطرف، وهما: "تطرف الرأي" و"تطرف الفعل". فقد لاحظ هؤلاء أن أغلبية الأفراد من أصحاب الآراء المتطرفة، لا ينتهون إلى القيام بالفعل الإرهابي. بمعنى أن كل معتنق للفكر المتطرف، ليس بالضرورة أن يكون مشروعاً إرهابياً محتملاً، خاصة بعدما ساهمت الثورة الرقمية التي يعيش العالم المعاصر على إيقاعها منذ عقود، في تيسير سبل إشاعة التطرف، فالأيديولوجية الراديكالية، في شقها النظري على شكل خطاب، أو في شقها التطبيقي من خلال الممارسة الواقعية في الميدان، أضحت في متناول الباحثين عنها، بنقرة على زر الحاسوب أو شاشة الهاتف، دون تكلُف أو عناء، متخطية بذلك مختلف الحواجز التقليدية. ما ساهم في الانتشار المتزايد لوباء التطرف في مختلف أصقاع العالم، دون الحاجة إلى التحرك بقصد اللقاء الفعلي والمباشر مع رموز هذا الفكر، فكل شيء يتم عن بعد.


تظهر هنا فائدة التفرقة بين تطرف الرأي الذي غالبا ما يكون ذا منزع فردي، وتطرف الفعل الذي يرتبط بالجماعة أو التنظيم. فمن شأن الجمع بين الفريقين معاً، أن يؤدي إلى نتائج عكسية في طرق المعالجة. وقد يساهم في نقل أشخاص متطرفين يقفون عند عتبة التبني والإقناع إلى جبهة التطرف العنيف بواسطة الفعل والتنفيذ، نتيجة مواجهة الفريقين بذات الإجراءات لعلاج الظاهرة.


•    التطرف العنيف: العوامل الدافعة


يتضمن التقرير الذي قدمه الأمين العام للأمم المتحدة، عام 2016، "حول خطة العمل من أجل منع التطرف العنيف"، إقرارا بصعوبة التوافق على تحديد "العوامل الدافعة" التي قد تنقل الفرد من التطرف إلى التطرف العنيف. وازداد الأمر تعقيدا بسبب ارتباط مفهوم التطرف العنيف؛ من ناحية التصور أو النقاش، بجماعات معينة لها خلفية دينية.


 ما توفره البحوث حول دواعي انتشار العنف يفيد بتجاوز هذه الصعوبة، فاقتران التطرف بالسياسة يحول المتطرف من وضعية الكمون إلى حالة نشاط من أجل تنفيذه أفكاره، ليبرز حينها الوعي الجماعي الـ"نحن"؛ أي فكرة التنظيم. وهذا ما أشار إليه كاس ر. سينشتاين، أستاذ القانون بجامعة هارفارد، في كتابه "الطريق إلى التطرف: اتحاد العقول وانقسامها" (2009)، حين اعتبر أن الجماعات عند اجتماعها تذهب إلى الحدود القصوى للتطرف.


هذا ما تظهره بوضوح تجارب الجماعات الحاملة للواء التطرف العنيف في مختلف بقاع العالم، خاصة وأنها تعمد إلى صناعة "هوية جديدة" للمؤمنين بها، ممن كانوا على هامش المجتمع (المستبعدين اجتماعيا)، من خلال الاحتضان وإسناد المهام ومنح الشعور بالانتماء والاشتراك في الفكرة أو في "المشروع السياسي"... وكلها عوامل جاذبة تؤدي دورا أساسيا في عملية التحول من الفكرة إلى التنفيذ؛ أي الانتقال من التطرف إلى التطرف العنيف.


قد يرى بعض القراء نوعا من المبالغة فيما يقدمه المقال، من ارتباط بين التطرف العنيف والسياسة، وحجتهم على هذا الاعتراض، ما يحدث بين الفينة والأخرى من اعتداءات وهجمات، يتولى متطرفون فرادى تنفيذها؛ هنا وهناك، بأماكن عديدة في العالم. فلا دليل في هذه العمليات على تفاعل الديني بالسياسي، فغالبا ما يتولى المتطرف عمليته من البداية حتى النهاية؛ بتخطيط وتمويل وتنفيذ ذاتي، دون أن يتلقى أي دعم من الجماعة أو التنظيم.


مبدئيا هذا صحيح، فعمليات "الذئاب المنفردة" أضحت أداة رئيسة من أدوات اشتغال التنظيمات المتطرفة، ضمن إستراتيجية جديدة غايتها التخلص من الطابع المركزي داخل بنية التنظيم. لنكون أمام قلب للأدوار فقط، فبدل السعي للالتحاق بالجماعة والدولة، ما قد يعرضه لخطر الاكتشاف والملاحقة الأمنية، يتحول المتطرف إلى مشروع وكيل أو ممثل محلي للتنظيم، يتحين الفرصة المناسبة لتنفيذ عمليته، والتي غالبا ما يسبقها شريط تسجيلي لإعلان الولاء والمبايعة.