في أسرةٍ مسيحية نشأ وترعرع، وما إن شبَّ عن الطوق حتى اقتحم مَيدان السياسة؛ عضوًا في أشدِّ الأحزاب اليمينية تطرفًا وكراهية، ومعاداةً للمسلمين والأجانب. أسهم في إنتاج فيلم مُسيءٍ للنبيِّ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وحملته الضجَّةُ الكبيرة التي أحدثها الفيلم وردود الأفعال المستنكِرة، على إعادة النظر في موقفه من الإسلام ونبيِّه، وأسهم عقله الحرُّ في اتِّخاذ قناعات جديدة لا تنقاد للأهواء والأحقاد الدفينة، ولا للرغبات والضغوط الحزبية والسياسية، فلم يزل يفكِّر حتى انجلَت عن عينيه غِشاوةُ العَماية، وأبصر الحقَّ فانقاد له؛ إنه السياسيُّ الهولندي: «أرنود فان دورن Arnoud Van Doorn» المولود في مدينة «لاهاي» الهولندية عام 1967م.   

الحقد الأسود
انتمى أرنود في شبابه إلى حزب «من أجل الحرية» (pvv)، وهو الحزبُ الهولندي الحاكم يومئذ، وهو أشدُّ الأحزاب اليمينية تطرُّفًا، الذي بلغ به الحقدُ على الإسلام والمسلمين أن يقيمَ حمَلاته الانتخابية على فكرة العَداء للإسلام، والمطالبة بطرد المسلمين والأجانب، سواءٌ كانت تلك الحمَلاتُ في انتخابات البرلمان الهولندي، أو انتخابات مجالس البلديات أو المقاطعات. وكان أرنود متحمِّسًا لأفكار الحزب ومبادئه، ومن أنشط أعضائه دفاعًا عن مبادئه، وتولَّى فيه مِلفَّ رعاية الشباب، واكتسب خبرةً سياسية جيدة، أهَّلته أن يصبح نائبًا لرئيس الحزب «خِيْرت فيلدرز» المشهور بكراهيته المفرطة للإسلام، وحقده على المسلمين.  

ولمـَّا عزم «فيلدرز» عام 2008م على إنتاج فيلم «فتنة» للإساءة لنبيِّ المسلمين محمَّد صلى الله عليه وسلم، حمل أرنود على عاتقه الإشرافَ على تنفيذ العمل؛ لاغتراره برؤية الحزب من «أن الإسلام دينُ السلبية والشمولية والعُدوان».

ردود الأفعال
عقِبَ عرض الفيلم المسيء كان للمسلمين في أرجاء العالم ردَّةُ فعل شديدة؛ انتصارًا لنبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وغضبًا من شانئيه. وطَفِقَ أرنود يفكِّر مليًّا في سبب هذه المحبَّة العظيمة التي تنطوي عليها أفئدةُ المسلمين لدينهم ونبيِّهم في أصقاع الأرض، على اختلاف بلدانهم وأعراقهم ولغاتهم! 

وكان ذا عقل حرٍّ ناقد، يؤثر الصدورَ في أفعاله عن قناعاتٍ شخصية لا عن قناعات الآخرين، ووجد نفسَه في الحزب مقيَّدًا مسلوبَ الإرادة! فليس مسموحًا له بالتفكير خارج سِرب العقيدة اليمينية المتطرفة، ولا النقد بما يجنح عن ثوابت الحزب الفكرية. وبدأ ينمو لديه شعورٌ بضرورة التحرُّر من رِبقة الحزبية المقيتة، لكنَّ الأمر لم يكن سهلًا.

بزوغ الضياء
صار لدى أرنود رغبةٌ عارمة في الوقوف على حقيقة الإسلام ونبيِّ المسلمين، وثارت في صدره عشَراتُ الأسئلة التي يحتاج إلى البحث عن أجوبة واضحة ومقنعة عنها. وأقبل على القرآن الكريم وأحاديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قراءة وتأمُّلًا، واستجابَ لنصيحة زميل مسلم من أعضاء المجلس البلدي بالتوجُّه إلى «مسجد السنَّة» في مدينته لاهاي. فمضى مع ابنه المتبنَّى جمال ابن التاسعة، وهناك في المسجد أهدى إليه الإمامُ عددًا من كتب التفسير والسيرة، وشفى صدرَه بالإجابة عن أسئلته، وردِّ الشُّبهات الواردة عليه. ولم يمضِ على تلك الزيارة سوى شهرين حتى وجد ضياءً ساطعًا قد أشرق في نفسه، فأعلن إسلامه طَواعيةً عن قناعة عقلٍ وطُمَأنينة قلب، في 27 من فبراير 2013م.

مرحلة جديدة
بعد ذيوع خبر إسلامه، وتشكيك المشكِّكين فيه، نشر تغريدةً في مِنصَّة «تويتر» قاطعةً للشكِّ باليقين، كتب فيها كلمةَ الشهادة (أشهد أن لا إلهَ إلا الله، وأن محمَّدًا رسولُ الله) وأنه بدأ مرحلةً جديدة في حياته، دون ذِكر أيِّ تفاصيل. وأسَّس بعد إسلامه حزبًا باسم «حزب الوحدة» قائمًا على مبادئ الإسلام، وتولَّى رئاسته، وعمل عضوًا في المجلس البلدي ممثِّلًا للكتلة المستقلَّة في مدينة لاهاي، وسفيرًا لعَلاقات المشاهير في جمعية الدعوة الإسلامية الكندية في أوروبا.

وتعرَّض لهجوم شديد، لكنَّه أعرضَ عنه، ونأى عن الخوض في المهاترات، وقال: «بدا الأمرُ لهؤلاء أني أسلمتُ في يوم وليلة، ولكنَّ الأمر لم يكن كذلك؛ بل استغرق وقتًا من البحث والتفكير ليس بالقصير». وصرَّح أن رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) إنما هو صنيعةُ الحكومات الغربية ووسائل إعلامها، التي تجهَدُ في تقديم الإسلام في صورة قاتمة.

ويذكر أرنود تأثُّره بكتب السيرة التي أسَرَت فؤاده بمعرفة حقيقة النبيِّ الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن أشدِّ ما أثَّر فيه: رحمةُ النبيِّ بأعدائه يوم فتح مكَّة، فعلى شدَّة إيذاء أهلها له من قبلُ، وحملهم له على الهجرة عنها، ومع انتصاره وقدرته على الانتقام، قابلهم بالعَفْو والصَّفْح قائلًا: (اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء). 

اعتذار عملي
قرَّر أرنود بعد إسلامه إنتاجَ فيلم ضخم يبيِّن فيه لغير المسلمين حقيقةَ النبيِّ وعظمته، ويُبرز أخلاقه ورحمته؛ ليكون ذلك اعتذارًا عمليًّا عن ذاك الفيلم المسيء. وهو في الوقت نفسه يجتهد في الالتزام بدروس القرآن واللغة العربية؛ ليزدادَ معرفةً وبصيرة بالإسلام وعقائده وأحكامه وآدابه. وكان سارعَ بعد شهرين فقط من هدايته إلى أداء مناسك العُمرة، ثم عاد إلى أداء العُمرة والحجِّ في العام نفسه 1434هـ/ 2013م. وأقبل في الرحاب الطاهرة على المولى الكريم سبحانه داعيًا وباكيًا؛ طالبًا رضوانه وراجيًا غفرانه. ثم زار المدينة المنوَّرة والمسجد النبوي والروضة الشريفة وقبر سيِّد المرسَلين، وأبدى عظيمَ سعادته لما شعر به من طُمَأنينة فيها. ولقيَ من المسؤولين في المملكة العربية السعودية احتفاءً كبيرًا به. 

ضريبة لا بدَّ منها
لم يَسْلَم أرنود بعد إسلامه من الأذى، فقد أُوقفَ ظلمًا؛ لإزعاجه وتشويه سمعته، بتهمة التخطيط لاغتيال رئيس الحكومة «مارك روته»؛ لمصادفةِ حضوره إلى المقهى الذي اعتاد الرئيسُ ارتياده! ولكن ما أسرعَ أن ظهر بطلانُ التهمة، فأُطلق سَراحه في اليوم التالي. وصرَّح أرنود أن هذا الصنيع انتهاكٌ صريح للقانون ولحقوق الإنسان، وقرَّر مقاضاة جهاز الأمن المسؤول عن توقيفه. وبعد مضيِّ عام على إسلام «أرنود فان دورن» حذا نجلُه حَذوَه، ونطق بالشَّهادتين إيمانًا ويقينًا، في أثناء مؤتمر دبي العالمي للسلام.​