حظِيَ المشهدُ الأمني في جنوب شرقيِّ آسيا على مدار عقدين (من 2000 إلى 2020م) باهتمامٍ عالميٍّ واسع، ولا سيَّما ما يتعلَّق بالجماعات الإرهابية. ويرجع ذلك إلى انطلاق الموجة الأولى من الهجَمات الإرهابية العنيفة للجماعة الإرهابية التي تسمِّي نفسَها «الجماعةَ الإسلامية»، أعقبها اعتقالُ عشَرات من الإرهابيين. وقد نشِطَ هذا التنظيمُ المتطرف في جنوبيِّ الفلبِّين وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وأستراليا، وتشمل شبكاتُ الجماعة كِيانات أجنبيةً انفصالية وإرهابية، مثل: جبهة تحرير مورو، ومجلس المجاهدين الإندونيسيين، ومنظمة مجاهدي كومبولان بماليزيا، وحركة مجاهدي فطاني في تايلاند، وجماعة أبو سيَّاف والقاعدة بالفلبِّين.

داعش في آسيا

شنَّت الجماعةُ كثيرًا من الهجَمات الكبيرة في العقد الأوَّل من الألفية الجديدة، مثل: تفجيرات بالي عام 2002م، والتفجيرات (المتزامنة) لفندق ماريوت، وتفجير فندق ريتز كارلتون في جاكرتا عام 2009م. ولم يقع أيُّ هجوم كبير منذ ذلك الحين.

أمَّا تنظيمُ داعش فقد أشعل موجةً أُخرى من الأحداث الإرهابية العنيفة في صيف 2014م، حين أعلن الهالك أبو بكر البغدادي في 28 من يونيو إنشاءَ دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا. وما أسرعَ أن انتقل هذا الإعلانُ إلى خارج مِنطَقة الشرق الأوسط وشماليِّ إفريقيا، وتلقَّفه على الفور عددٌ من الجماعات والأفراد المتطرفين في أرجاء العالم.

وفي نهاية عام 2014م اعترفَ "أبو بكر باعشير" الزعيمُ الروحي والمؤسِّس المشارك للجماعة الإسلامية في إندونيسيا بالولاء للبغدادي. وبحلول سبتمبر أصبحت كتيبة "نوسانتارا" (كتيبة أرخبيل الملايو التابعة لداعش) اسمًا مألوفًا بين المتطرفين في جنوب شرقيِّ آسيا، وارتبط تنظيمُ داعش الإرهابي بعدد من أعضاء الجماعات الفلبِّينية، وعلى رأسهم زعيمُ جماعة أبو سيَّاف "إيسنيلون هابيلون" الذي وضعَته الولاياتُ المتحدة على قائمة الإرهاب. وأنتجت داعش كثيرًا من المقاطع المصوَّرة الدعائية التي تُبرز في صفوفها مقاتلين من الفلبِّين وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة. وتصدَّرت عشرات الهجَمات الإرهابية المستوحاة من داعش هناك عناوين الصُّحف، وكان أبرزها حصار "مراوي" في مايو 2017م.

الخلاف الحتمي

ينطلق أعضاءُ ما يسمَّى الجماعة الإسلامية وتنظيم داعش من المرتكزات الفكرية نفسِها، وهم يمارسون الإرهاب تجاه المسلمين وغيرهم. ومع ذلك، فإن هذه القواسم المشتركة لم تمنع وقوعَ الخلاف والصِّدام فيما بينهما؛ لعدَّة أسباب أهمُّها:

1) غياب الثقة

وهو سبب رئيسٌ لإطالة أمَد الصراع بين الجماعتين؛ ولغياب الثقة ما يسوِّغها ولا سيَّما من وجهة نظر الجماعة الإسلامية؛ لأن وحشيَّة داعش تجاه المدنيين وغيرهم غيرُ مسبوقة، والجرائم التي يرتكبونها لا تعود بالنفع على نظرة العالم لمفهوم الجهاد، بل صارت سببًا مباشرًا لنفور الجميع من الجهاد ومن الحركات الجهادية على اختلاف مناهجها.

وذهب بعضُ الباحثين إلى أن غير قليل من أعضاء الجماعة الإسلامية باتوا يؤمنون بأن داعش هي الذراع الطويلة للغرب الذي يسعى إلى تشويه ممارسات الجهاد، ودفع التنظيمُ جميعَ الأطراف إلى المشاركة في مكافحته والتصدِّي له. وقد تبرَّأ زعيمُ القاعدة الهالك أيمن الظواهري في عام 2014م من أيِّ عَلاقة تربطه بداعش. وفي ظلِّ الأواصر القوية بين تنظيم القاعدة والجماعة الإسلامية جاء موقفُ الأخيرة حادًّا تجاه داعش.

2) اختلاف الأهداف

ألقت السُّلطات المحلِّية القبضَ على أعضاءٍ من الجماعة الإسلامية السنغافورية لأوَّل مرَّة عام 2001م، وخلَصَ التحقيقُ معهم إلى أن الجماعة طوَّرت هدفها الرئيس إلى جعل إندونيسيا دولةً إسلامية باسم "دولة نوسانتارا الإسلامية" أو "دولة الأرخبيل الإسلامية"، وتتكوَّن من: سنغافورة، وماليزيا، وبروناي، وإندونيسيا، وجنوبي تايلاند، ومينداناو (جنوبيَّ الفلبِّين).

ويتناول دليلُ الجماعة المعروف بـ "الدليل العام لنضال الجماعة الإسلامية" شرحًا مفصَّلًا لمخطَّطاتها؛ وذلك بالاهتمام بتنفيذ العمليات التي من شأنها تسهيلُ إقامة دولة إسلامية تضمُّ أرخبيل الملايو، ولا تزال الجماعةُ الإسلامية ساعيةً إلى تحقيق هذا الهدف. وترى أن بزوغَ نجم أنصار داعش والجماعات التابعة له في المنطقة لا يفيد سوى السُّلطة المحلِّية في مكافحتها التطرفَ العنيف.

وفي المقابل لم تعترف داعش أبدًا بالمفهوم الراسخ للدولة القومية، ولا بحدود الدول، وهو ما تجلَّى صراحةً في شعارها "باقية وتتمدَّد"، وهذا ما يفسِّر اتساعَ ولايات تنظيم داعش خارج بلاد الشام، مثل ولاية خُراسان، وولاية وسَط إفريقيا، وولاية غربي إفريقيا. أمَّا في جنوب شرقيِّ آسيا فلا تزال الفصائلُ المسلَّحة الموالية لداعش في جنوب الفلبِّين تمارس نشاطاتها في إنهاك قوَّات الأمن المحلِّية في اشتباكات مسلَّحة مستمرَّة.

وثمَّة جماعةٌ أُخرى تُلقَّب بـ "أنصار خلافة الفلبِّين" معروفةٌ بانخراطها في اشتباك مع القوَّات الحكومية عام 2017م. وتورَّطت هذه الجماعةُ في عمليات الإعدام الوحشية على غِرار ما تفعله داعش، وأفادت التقاريرُ أنها شاركت في حصار "مراوي" عام 2017م. وفي إندونيسيا لوحظَ أن جماعة أنصار الدولة المتحالفة مع داعش كانت تخطِّط بنشاطٍ لشنِّ هجَمات إرهابية، ونفَّذت بعضها وأصدر تنظيمُ داعش رسالةً صوتية العام الماضي مدَّتها 36 دقيقة، دعا فيها المسلمين في الفلبِّين وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا والهند ودول شرقيِّ آسيا الأُخرى للانضمام إليه. وممَّا يزيد من خطر انتشار تنظيم داعش في المنطقة أن في قدرة مقاتليه الأجانب العائدين الذين تمرَّسوا بالقتال تعزيزَ أهداف التوسُّع العالمي للتنظيم في أوطانهم.

3) اختلاف الإعداد

ويمكن الوقوفُ على الفوارق بين أعضاء الجماعتين بفحص الملفَّات الشخصية لأعضائهما. فقد ضمَّت الجماعةُ الإسلامية قُدامى المحاربين الذين خضَعوا على مدار أشهر بل سنوات لتدريب عسكري وبدني، وإعداد فكري وتربوي، في أفغانستان أو باكستان، في أثناء الحرب السوفيتية الأفغانية. ويلتزم كلُّ عضو منهم بحضور اجتماع الأُسرة، وهو اجتماعٌ منتظَم يرأسه "قائد خلية العمليات"، يتلقَّى المشاركون فيه التوجيهاتِ الفكريةَ والتربوية والعملية. ولا يدَّعي أعضاءُ الجماعة انتماءهم إلى نضال الآخرين الجهادي، ولا يحتفون به. وبفضل هذه التربية الفكرية الصارمة استوعبوا مفهومَ الجهاد الأكبر، حسَب فهمهم وتفسيرهم، وهو القضاءُ على أعداء الإسلام، وإقامةُ دولة إسلامية تحكُم بالشريعة الإسلامية.

وعلى خلاف ذلك، يفتقرُ الأفراد والجماعات الموالية لتنظيم داعش إلى أوراق الاعتماد الحقيقية على الأرض؛ إذ ينتمي أغلبُهم إلى فئة الشباب، وغالبًا ما يختارون الطريقَ الأسرع والأقصر للحصول على مكانةٍ أو على لقب "داعية جهادي". وهم يدعمون صورتهم في دوائر الموالين لهم في مِنصَّات وسائل التواصُل الاجتماعي؛ بالخُطَب والبيانات.

وقد ذهب قُدامى المحاربين في الجماعة الإسلامية، إلى أن أنصار داعش من الشباب انخرطوا في القضية الجهادية "المزعومة" دون إعداد مناسب، وحصلوا على أوراق اعتمادهم من الإعجاب على مِنصَّات التواصُل الاجتماعي فقط، بدلًا من بذل العرق وإراقة الدم في ساحات القتال. وهم مجرَّد شخصيات اعتبارية في وسائل التواصل أكثرُ من كونهم جهاديين حقيقيين.

​4) اختلاف الرؤية القتالية

كان هناك دائمًا فصيلٌ داخلَ الجماعة الإسلامية يتبنَّى منهج الدعوة والتربية وإعادة بناء الموارد الاقتصادية والبشرية؛ ليكونَ لها الأولويَّة على القتال المسلَّح. لكنَّ وجود مجموعة أصغر وأكثر تأثيرًا أصرَّت على استخدام العنف وعزمت على الإسراع في إقامة دولةٍ إسلامية، أو نفَّذت هجَمات إرهابية، دفعَ الحكومات في جنوب شرقيِّ آسيا إلى ملاحقة أعضاء الجماعة، وشلِّ شبكاتها، وتفكيك معسكراتها على نحوٍ عنيفٍ منذ عام 2001م. ولا تزال قوَّاتُ الأمن الإندونيسية ماضيةً على هذا النهج من المواجهة والاعتقال باطِّراد حتى يومنا هذا.

وفي عام 2021م أقرَّ أميرُ الجماعة الإسلامية "بارا ويجايانتو" بأن الجماعة واجهت صعوباتٍ كبرى منذ آخر هجوم إرهابي، وهو تفجيرات "بالي"، فقد تصدَّت لهم قوَّاتُ الأمن الإندونيسية بعنف، ممَّا جعل الجماعةَ تعمل على تطوير نظام حركي يسمَّى (نظام الأمن الكلِّي لبلوغ الحلِّ الشامل TASTOS)؛ لتعزيز المرونة بين الأعضاء باتِّباع طرق مفصَّلة، والحفاظ على السرِّية، وتجنُّب الاعتقال. وتحت زعامة "ويجايانتو" جنَّد التنظيمُ مقاتلين إندونيسيين ودرَّبهم على استعمال الأسلحة وتركيب القنابل، في اثني عشر موقعًا للتدريب في إندونيسيا، وجمعَ الأموال للذين انتقلوا منهم إلى سوريا للقتال في صفوف "جبهة النُّصرة" المحاربة لقوَّات النظام السوري. وبذلك تورَّطت الجماعةُ في التحريض على العنف في الخارج.

هذا التصوُّر يُظهر أن توجُّه الجماعة يتبنَّى مبدأ "الدعوة قبل الجهاد"، وهذا يعني أنه من غير المرجَّح أن تخطِّطَ الجماعة لشنِّ هجومٍ عنيف في القريب العاجل. وقد أدَّى هذا التطوُّر إلى نفاد صبر بعض الأعضاء وعدم رضاهم، فقرَّروا التحالفَ مع الجناح المؤيِّد للعنف والتفجيرات في الجماعة. وفي نهاية المطاف انشقَّ عددٌ قليل منهم وانضمَّ إلى الجماعات الموالية لداعش.

في حين يعمل المسلَّحون الموالون لداعش في إثارة الإرهاب في جنوب شرقيِّ آسيا، ولا يزال جنوبي الفلبِّين ساحةً للقتال فيما بينهم وبين قوَّات الدولة. ومع ذلك كان حصارُ "مراوي" المعروف أيضًا باسم "معركة مراوي" عام 2017م، النزاعَ المسلَّح الأكثر بروزًا، وشارك فيه مسلَّحون متحالفون مع داعش في هذه المنطقة. ويسود اعتقادٌ بأن جماعة أنصار الدولة المستوحاة من داعش كانت وراء الهجوم الانتحاري الأخير على مركز للشرطة في مقاطعة جاوة الغربية بإندونيسيا، وكذلك تفجير "كاتدرائية ماكاسار" عام 2021م. وكان لماليزيا أيضًا نصيبُها من الاختراقات الأمنية المنبثقة عن داعش في يونيو 2016م، عندما أعلنت الجماعةُ الإرهابية مسؤوليتَها عن هجوم بعُبُوَّة ناسفة على حانة في ولاية "سيلانجور".

​5) اختلاف الرؤية السياسية

كشفت وكالةُ مكافحة الإرهاب الإندونيسية أنه على الرغم من اعتقال عشَرات الموظفين المدنيين وضبَّاط الشرطة والمسؤولين العسكريين المرتبطين بالجماعة الإسلامية منذ عام 2021م، تغلغلت الجماعةُ الإرهابية في المؤسسات الدينية والمدنية في جميع أنحاء البلاد؛ لنشر عقيدتها المنحرفة وفكرها المتطرف، كما تغلغلت سرًّا في المجال السياسي الإندونيسي، ولم يُكتشَف وجودُها حتى أواخر عام 2021م عند اعتقال فريد أحمد عُقبة، عضو المجلس الاستشاري للجماعة الإسلامية الذي أسَّس "حزب الدعوة الشعبي" الإندونيسي في أوائل عام 2021م ولا يزال رئيسًا له.

وكشفت وثائقُ المحكمة الإندونيسية المتعلِّقة بعدد من قادة الجماعة الإسلامية المدانين، أن الجماعة أطلقت كِيانًا سياسيًّا يسمَّى "التمكين السياسي" عام 2016م، ليكون أحدَ إستراتيجياتها في تعزيز تعاطف المسلمين الإندونيسيين وكسب ثقتهم، بعد كسب قلوبهم وعقولهم. ورأى بعضُ الباحثين أن الدخول في العملية السياسية أحدُ المسارات التي تشير إلى أن حركة الإرهاب تقترب من نهاية دورة حياتها. ومع ذلك ألمحَ بعضُ الباحثين إلى أن الجماعة الإسلامية، أجَّلَت عملياتها مؤقَّتًا لتحظى بتأييد كافٍ من السكَّان والأهالي. وعلى الرغم من منع أعضاء الجماعة تمامًا من المشاركة في الانتخابات والإدلاء بأصواتهم، نضِجَت فكرةُ الاتحاد السياسي لديهم في عام 2015م، وشجَّع البيانُ الصادر عن الجماعة المواطنين المسلمين على التصويت لمرشَّح برلماني يمكنه رعايةُ مصالحهم على أفضل وجه في انتخابات 2019م.

وهذا بلا شكٍّ يدلُّ من حيثُ المبدأ على أن الجماعة الإسلامية لديها الاستعدادُ للتنازل عن بعض مبادئها الأساسية، مثل: رفض الديمقراطية، والانخراط في العملية السياسية، إذا ما كان ذلك يحقِّق مصالحها وبقاءها على قيد الحياة.

أمَّا تنظيمُ داعش فلم يُظهِر أيَّ بوادر مرونة للمشاركة في العمل السياسي، وهو يؤكِّد أن الخلافة هي النظامُ الشرعي الوحيد للحُكم في الإسلام، وأنه لا يمكن أن تربطَه أيُّ عَلاقة بأعضاء الحكومات التي يرميها بالكفر ويعدُّها العدوَّ اللدود. وفي أغسطس 2022م أوضح التنظيمُ رفضَه إقامة أيِّ عَلاقة أو تواصُل مع كِيانات غير إسلامية.

وفي الختام نؤكِّد أن ما يروِّجه التنظيمانِ (تنظيم داعش، والجماعة الإسلامية) من أفكار قد تبدو متقاربةً، لا ينتجُ عنه بالضرورة وجهاتُ نظر متَّسقة وأهداف مشتركة وطُرق عمل موحَّدة. فمن يتبنَّون نهجًا سلميًّا ومؤقتًا وخفيًّا بممارسة العمل السياسي، سينظرون بجدِّية إلى إمكانية الانحياز إلى الجماعة الإسلامية، وسيكون تنظيمُ داعش الخِيارَ الأفضل لأولئك الذين يفضِّلون التغييرَ السريع والقَسْريَّ بممارسة العنف والإرهاب.