على خلاف الشائع في دراسات الإرهاب، ارتبطت ظاهرةُ التطرف العنيف في معظم دول أمريكا اللاتينية بالتطرف السياسي أو الفكري؛ إذ كانت عملياتُ العنف وسقوط الضحايا تتعلَّق غالبًا بالصراع بين النظام وقوى المعارضة، ومن ثَم فإن الخطاب المستخدَم في مجال التطرف العنيف هناك يحتوي على مصطلحات مثل: «المخرِّبين» و«الجماعات المتمرِّدة»، و«عنف الدولة» و«الجماعات اليمينية العنيفة»، و«الجماعات اليسارية الأصولية المسلَّحة» و«وسائل العدالة الانتقالية». 

طبيعة الصراع
وافقت أحداثُ الصراع السياسي العنيف بين التيَّارات السياسية المتطرفة (من اليمين واليسار) في كثير من دول أمريكا اللاتينية؛ حِقبةَ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وبصرف النظر عمَّا إذا كانت تلك الصراعاتُ من نتائج تلك الحرب الباردة، أو أنها نتاجٌ طبيعي للحَراك الفكري والاجتماعي بين التيَّارات والمؤسسات اليمينية المحافظة والتيَّارات والمؤسسات اليسارية المطالبة بالتغيير والعدالة الاجتماعية، فإن المهمَّ هو أن أغلبَ دول المنطقة شهدت في تلك الحِقبة ولا سيَّما سبعينيَّات القرن الماضي والثمانينيَّات منه، أحداثَ عنف شديد؛ لأسباب فكرية، نتج عنها سقوطُ عشرات الآلاف من الضحايا، بين قتلى وجرحى ومفقودين، فضلًا عن المعتقلين ومَن تعرَّضوا للتنكيل والتعذيب.

وتُوصف تلك الأحداثُ بأنها «عنفٌ سياسي منظَّم» بين «متمرِّدين» و«مؤسسات الدولة» أو «النخبة الحاكمة»؛ فقد أدرك المتطرفون على اختلاف توجُّهاتهم السياسية أن الإرهاب وسيلةٌ للحصول على تنازلات سياسية يصعُب تحقيقها بالوسائل التقليدية. وفي المقابل استخدمت الأنظمةُ الحاكمة عنفًا شديدًا وانتهاكاتٍ جسيمةً تجاه «المتمرِّدين»؛ ممَّا أفضى إلى ظهور مصطلح «إرهاب الدولة»​.

ومنذ عام 1970م ازداد العنفُ المسلَّح للجماعات اليسارية المتطرفة؛ فقد نفَّذت عملياتِ اغتيال واسعةً لشخصيات مدنية بارزة؛ بدوافعَ فكرية أصولية. وكان هنالك انقسامٌ بين مَن يَصفُ الأعمالَ المسلَّحة لتلك التنظيمات بالإرهابية والتخريبية، وبين مَن يجادلُ في شرعية استخدامها للعنف، ويراه كفاحًا مسلَّحًا سائغًا، ولا سيَّما مع الهالة العاطفية التي أضفَتها الثورةُ الكوبية على التنظيمات اليسارية، من مثل: «يوفينتود بيرونيست» (JP)، وجناحها المسلَّح «Tendencia Revolucionaria»، وجماعة «مونتونيروس» Montoneros  المسلَّحة في الأرجنتين التي نفذت عملياتِ اغتيال لمجنَّدين ورجال شرطةٍ من رُتبٍ دنيا، منوهين إلى أنه لا يمكن تحميلُها مسؤوليةَ عمليات القتل والاعتقال والإخفاء القَسْري لقوى اليسار. إذ لم يكن عنف الجماعة عشوائيًّا أو موجَّهًا إلى العامَّة، كما هو الحالُ في أعمال تنظيمات متطرفة أخرى، مثل: القاعدة وداعش، أو في عمليات اليمين المتطرف أو تنظيمات يسارية متطرفة عنيفة، مثل: منظمة فارك في كولومبيا.

العدالة الانتقالية
تعرَّضت وسائلُ العدالة الانتقالية في الدول اللاتينية لما يُسمَّى أخطاءَ سياسات مواجهة التطرف العنيف، في مرحلة السبعينيَّات والثمانينيَّات الميلادية، فالخطاباتُ المعتمَدة في أغلب مراحل الحرب الباردة، جنَحَت بها التيَّاراتُ السياسية ولا سيَّما اليسارية، إلى الأصولية والتطرف؛ ولم تلبث أن تورَّطت في استخدام العنف والسلاح تجاه مؤسسات الدولة، وأهدافٍ مدنية أحيانًا، مع إثارة الفوضى وتهديد الأمن الداخلي. 

واعتمدت سياساتُ المواجهة في أغلب الدول اللاتينية، وفي مقدِّمتها الأرجنتين وتشيلي والبرازيل وبوليفيا، على المواجهة الأمنية الصُّلبة، التي اتصفت بالعنف المفرط، وانتهاك حقوق الإنسان. ولذلك شُغِلَ الرأيُ العام والمتخصِّصون عقِبَ التحوُّل الديمقراطي في هذه الدول بنقدِ سياسات مواجهة التطرف العنيف باتِّباع وسائل العدالة الانتقالية، التي بدأت من الأرجنتين بعد انتهاء الحكومة العسكرية وانتخاب حكومة «راوؤل ألفونسين» الديمقراطية عام 1983م. 

واعترفت أغلبُ الدول اللاتينية في مراحل التحوُّل إلى الديمقراطية بأن السياساتِ الحكوميةَ لمواجهة التطرف اليساري العنيف كانت «عنفًا» يرقى إلى أن يكون «إرهاب دولة». واعتمدت التعاملَ مع أتباع تيَّار اليسار الأصولي المتطرف بوصفهم «ضحايا» للإرهاب، وليسوا «إرهابيين» أو «مخرِّبين» كما كان شائعًا من قبلُ، فضلًا عن الاهتمام بضمان عدم تكرار تجاوزات الماضي في المستقبل. وهذا ما يفسِّر مدى حساسية الموقف اللاتيني الرسمي وغير الرسمي من سياسات مواجهة الإرهاب المحلِّية والعالمية وعَلاقتها بــ «حقوق الانسان». فالميراثُ اللاتيني وخبرةُ المرحلة الانتقالية لديهم أفضَت إلى هذا الموقف الواضح الصَّريح.

نظرية الشيطانين
تؤكِّد هذه النظريةُ التي ظهرت في الأرجنتين، أنَّ الجانيَ والضحية شيطانان؛ لأنهما سببٌ في تأجيج التطرف والعنف، وأنَّ «مواجهة التطرف العنيف» تتطلَّب عدمَ الالتفات إلى الماضي، أي لا محاكمةَ ولا حُكم، ولا حتى مناقشة إصلاح المؤسسات والتشريعات؛ لضمان عدم تكرار الجرائم في المستقبل. وقد واجهت هذه النظريةُ جدلًا كبيرًا بين مؤيِّد ومعارض، ومازال مستمرًّا حتى الآن. 

فمن جهة، اعتمد مؤيِّدو تلك النظرية على «شيطنة» التنظيمات اليسارية، ووَصْمهم بالإرهاب؛ لمساواة عنفهم بعنف الحكومات في مرحلة ما عُرف بالحرب القذِرة (1976 - 1983م)، فقد ظهرت انتقاداتٌ كثيرة لمنظمة «مونتونيروس» من داخل الجناح الديمقراطي. ومن جهة أُخرى، اعتمد رافضو هذه النظرية على عدم المساواة بين العنف المتقطِّع أو العنف الفردي الذي مارسَته عناصرُ بعض التنظيمات اليسارية الأصولية، بالعنف الممنهَج الذي مارسته المؤسسةُ العسكرية على نطاق واسع، وهي الممثلةُ للدولة رسميًّا وقانونيًّا. وأكَّد رافضو النظرية أنَّ مؤسساتِ الدولة القوميةَ من المفترض أن تتصرَّفَ ضمن حدود القانون، حتى عند استخدام العنف لمحاربة الخارجين عن القانون.

وبين هذا وذاك أشارت افتتاحيةُ تقرير الحقيقة الأرجنتيني «كوناديب» (Conadep) إلى أن الأرجنتين اهتزَّت في سبعينيَّات القرن الماضي؛ بسبب رعب جاء من أقصى اليمين واليسار المتطرفَين، وعُدَّت هذه الافتتاحيةُ النصَّ الأهمَّ لتأييد نظرية الشيطانين. 

وظلَّ الأمر كذلك نحو ثلاثين عامًا حتى عام 2006م في عهد حكومة «كيرشنر» اليسارية، حين قرَّرت أمانةُ حقوق الإنسان إعادة نشر التقرير بمقدِّمة جديدة، أضافت لها هذه العبارة: «من الضَّروري لبناء المستقبل على أسُس راسخة، عدمُ قَبول إرهاب الدولة على أنه نوعٌ من العنف المتبادَل بين جانبين». وفي هذه الجملة رفضٌ صريح للنظرية. ثم صدرَ قانون (ESMA)، الذي حوَّل مبنى الكلِّية العسكرية الذي كان مخصَّصًا لاعتقال المعارضة اليسارية وتعذيبها في أثناء الحكم العسكري، إلى مُتحَف للتذكير بالعهد البائد، الذي تساوى فيه عنفُ النظام الديكتاتوري وعنفُ التنظيمات اليسارية المتطرفة.

سياسات المواجهة 
أثبتت التقاريرُ المقدار الكبير للتجاوزات التي ارتكبتها الحكوماتُ في الدول اللاتينية، بذريعة ما أسمته «الحرب على المخرِّبين» أو «الإرهابيين»، وتعني بهم الناشطين اليساريين والتنظيمات اليسارية الأصولية العنيفة وغير العنيفة. وقد وصف تقريرُ الحقيقة الأرجنتيني حِقبةَ الحكم الديكتاتوري الذي بدأ بانقلاب 1976م، وما حدث فيها من انتهاكات حقوقية بحِقبة «الحرب القذرة»، وتلك التسميةُ جاءت من وصف السياسة الفرنسية في مستعمراتها في مراحل التحرُّر الوطني ولا سيَّما في الجزائر. 

وأصبح ثابتًا أن القوَّاتِ العسكريةَ الأرجنتينية تلقَّت تدريبًا على أيدي خبراءَ عسكريين فرنسيين بتمويل أمريكي؛ للتعامل مع المتمرِّدين أو المعارضين اليساريين المتطرفين، سواءٌ من ارتكب عنفًا ومن لم يرتكب. ثم أُعيد بناءُ العقيدة العسكرية في الأرجنتين للتعامل مع مصطلحات مستوحاة من «المدرسة الفرنسية»، مثل: «مكافحة التمرُّد» و«العدو الداخلي»، فضلًا عن توسيع دائرة الاشتباه وإعداد قوائمَ لـ «الأعداء المحتمَلين»، واعتماد طرق وحشية للاستجواب والعقاب خارج إطار العدالة والمحاكمات العلنية.

وتبنَّت العقيدةُ العسكرية في كثير من الدول اللاتينية عقِبَ نجاح الثورة الكوبية مفهومَ «الحرب الشاملة على العدوِّ المشترك»، والمقصود به التياراتُ والتنظيمات والأفكار الشيوعية واليسارية. مع الاعتماد على الرؤية الأمريكية للأمن القومي، القائمة على معاداة الشيوعية، والتعاون مع الولايات المتحدة في تحقيق هذا الهدف؛ بنهوض القوَّات العسكرية بعبء جديد وهو محاربةُ المواطنين اليساريين داخل حدود الدولة، ممَّا يؤكِّد الانحرافَ عن الوظيفة التقليدية للجيوش؛ بل الانحرافَ عن المفاهيم الأخلاقية العسكرية، عندما قام القادةُ العسكريون والضبَّاط والجنود بالاشتراك في عمليات التعذيب والإعدام للمواطنين المدنيين خارج إطار القانون. 

ومن الجدير بالذكر أن التجاوزاتِ الإنسانيةَ التي شهدتها الأرجنتين ودولٌ لاتينية أُخرى في مقدِّمتها تشيلي، بعد انقلاب الجنرال «بينوشيه» في 1973م، لم تكن سياساتٍ تبنَّتها القوَّاتُ المسلَّحة لمواجهة ما عُرف يومئذٍ بـ «الإرهاب اليساري» فحسبُ؛ بل كانت صدًى لتوجُّهات سياسية وقانونية ودينية وثقافية مؤيِّدة لهذه السياسات بما تحويه من انتهاكات حقوقية. وذكر المؤرِّخ الأرجنتيني «إستيبان بونتورييرو»: أن المفاهيم التي سمحت بتدخُّل القوَّات المسلَّحة في مسائل الأمن الداخلي تجاه «العدوِّ الداخلي» أو «التخريب» لم تكن مدعومةً من قِبَل القيادة العسكرية فحسب؛ بل من قادة الأحزاب السياسية الشرعية.

وبهذا يمكن فهمُ الموقفِ الرسمي لغالبية الدول اللاتينية، ولا سيَّما الحكومات اليسارية، تجاه السياسات والخُطط الإستراتيجية المحلِّية والدَّولية لمواجهة التطرف العنيف والتنظيمات المتَّهمة بارتكاب أعمال إرهابية في العالم. ذلك الموقف الخاضع لميراث العنف وسياسات مواجهة العنف في الماضي، والخاضع أيضًا لميراث الشكِّ في تصنيف التنظيمات ووصفها بالإرهاب. وتزداد هذه الشكوكُ لدى الحكومات اليسارية كلَّما كانت الولايات المتحدة أو أحدُ حلفائها متبنِّيًا لهذا التصنيف.

وجاء في البيان الرسمي الصادر عن الدول اللاتينية ومِنطَقة البحر الكاريبي، بشأن تدابير القضاء على الإرهاب الدَّولي في الأمم المتحدة: «يجب علينا معالجةُ الظروف التي تؤدِّي إلى انتشار الإرهاب، مثل النزاعات التي طال أمدُها، والتمييز بين الموطنين، وعدم سيادة القانون، وانتهاكات حقوق الإنسان، والاستبعاد الاجتماعي والسياسي الطويل. مع تأكيد أن هذه الظروفَ لا تسوِّغ أعمالَ الإرهاب، وأن أيَّ تدبير يُتَّخذ لمواجهة الإرهاب خارج إطار القانون الدَّولي مرفوض، ويمكن أن يؤجِّجَ التطرف. وهذا ما يمكن أن يكونَ من العنف المـُفضي إلى الإرهاب». وبهذا المعنى نشير إلى قرار الجمعية العامَّة برَقْم 70/148 بشأن «حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في أثناء مكافحة الإرهاب». وأضاف البيان: «لقد رفضت بلداننا رفضًا منهجيًّا القوائم السوداء الأُحادية الجانب التي تتَّهم الدولَ بدعم الإرهاب ورعايته. هذه الممارسةُ غير متفقة مع القانون الدَّولي، ويجب وقفها». وفي السنوات الأخيرة استُخدمت كلمات «الإرهاب» و«التطرف» و«المقاتلون الأجانب»، وكلماتٌ أُخرى على غِرارها، ولا تزال جميعًا غيرَ واضحة الدلالة، وغيرَ متَّفَق على تعريفها من الناحية القانونية. وهذا يدعو للقلق؛ فإن غياب تعريف صريح ودقيق للإرهاب، له أثرٌ سلبي في حقوق الإنسان والإجراءات القانونية المتَّخذة.