يواجه صانعو السياسات وخبراءُ مكافحة الإرهاب خِياراتٍ شتَّى في التعامل مع التهديدات الإرهابية، ما بين خِيار التدخُّل العسكري والأمني لمنع تمدُّدها وانتشارها، وخِيار المواجهة الإعلامية ومكافحة عمليات التجنيد في صفوف التنظيمات الإرهابية، وخِيار المكافحة الجنائية واستهداف مصادر تمويلها وأنشطتها الاقتصادية غير المشروعة. وغالبًا ما تُعنى سياسات الدول بمزج هذه الخِيارات؛ لتحقيق نتائجَ مجديةٍ في مواجهة الإرهاب.

التفاوض مع الإرهابيين
جذب التفاوضُ مع التنظيمات الإرهابية اهتمامَ الحكومات التي واجهت تهديداتٍ إرهابيةً في الآونة الأخيرة، وكشفت بعضُ الحكومات في مِنطَقة الساحل الإفريقي بعد عام 2020م، عن عزمها على التفاوض مع التنظيمات الإرهابية، ولا سيَّما في مالي وبوركينا فاسو، غير أن هذه السياسةَ لم تؤتِ ثمارها حتى الآن، ممَّا يثير أسئلةً عن أسباب تعثُّر محاولات التفاوض مع هذه التنظيمات في تلك المنطقة، والشروط التي يجب توافرُها لنجاح عملية التفاوض.

ويبدو أن ثمَّة قناعةً لدى كثير من الحكومات أن التفاوضَ مع التنظيمات الإرهابية يساعدُ على تحييد الأجنحة المعتدلة داخلها وعزل الأجنحة المتشدِّدة، على سبيل المثال: يسمح التفاوضُ مع تنظيم «نصرة الإسلام والمسلمين» بتمكين العناصر المستعدَّة للتخلِّي عن انتمائها، ثم استهداف الأجنحة المتشدِّدة بالعمل العسكري، فضلاً عن تركيز الضربات العسكرية على التنظيمات المناوئة مثل داعش. ومع ذلك، لاتزال الحكوماتُ الإفريقية تتوجَّسُ من جدِّية هذه التنظيمات وقَبولها التخلِّيَ عن العنف، وخاصة أنها تطمح إلى المشاركة في السلطة، وتغيير الأطر السياسية والتشريعية والدستورية في البلاد لتوافق أجندتها السياسية.

وتوجد آراء تؤكد أن التفاوضَ هو استجابةٌ تكتيكية للإرهاب، تهدِفُ إلى إنهاء العمليات الإرهابية، وقد أشارت بعض أدبيات التفاوض إلى أنه تكتيك استخباراتي وأمني الغرض منه جمعُ المعلومات عن التنظيم الإرهابي. وأشارت آراء أُخرى إلى أن التفاوض هو أداةٌ إستراتيجية قوية لإدارة العنف، ولتمزيق المعارضة وإضعاف التنظيم الإرهابي على المدى الطويل. 

وفي العقدَين الماضيين بعد هجَمات 11 سبتمبر 2001م، أُثيرَ نقاشٌ واسع في الدوائر السياسية الغربية، عن خِيار التفاوض مع التنظيمات الإرهابية، وعلى حين عارضت بعضُ الدول هذه الفكرة، وعلى رأسها الرئيسُ الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي رفض التفاوضَ مع التنظيمات الإرهابية في مِنطَقة الساحل، أيَّدتها دول أُخرى، ومن ذلك موقفُ الرئيس الأمريكي جو بايدن من التفاوض مع جماعة طالبان في أفغانستان، واتجاه بعض دول الساحل مثل مالي وبوركينا فاسو للتفاوض مع التنظيمات الفاعلة في مِنطَقة الساحل الإفريقي.  واستندت الاتجاهاتُ المعارضة للتفاوض إلى حُجَج مختلفة، منها أن الإرهابيين أفرادٌ غير عقلانيين، وأعضاءٌ في جماعات معزولة ومتشدِّدة ترى الآخرين كفَّارًا يجب إبادتهم، ومن ثَمَّ فإن التفاوضَ مع العناصر الإرهابية مكافأةٌ لهم على قتل الأبرياء، وينطوي على خطر إضفاء الشرعية عليهم، ومنحهم فرصةً لتحقيق أهدافهم.

أمَّا المؤيِّدون لخِيار التفاوض فيرَون أن أيَّ صراع لا يمكن أن يستمرَّ إلى الأبد، وأن التفاوض هو السبيلُ الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار، ومن المهمِّ تشجيعُ الأجنحة المعتدلة على التفاوض وتحييدها. وخِيارُ المفاوضات أقلُّ كلفةً من الخِيارات العسكرية، وبعضُ العناصر الإرهابية يمكن أن تقبلَ الدخول في مفاوضات من أجل البقاء وتحقيق مكاسبَ سياسية.

وقد يكون التفاوضُ مهمًّا لتجنُّب اللجوء إلى الصراع، ويمكن استثماره في إيجاد فجوةٍ بين الإرهابيين ومؤيِّديهم، وكلَّما كان الاتصالُ مع الإرهابيين قويًّا زاد تأثيرُ الحكومة فيهم على نحو أكبر. ومع ذلك، تنطوي هذه الرؤيةُ المؤيِّدة للتفاوض مع التنظيمات الإرهابية على عدد من المشكلات، منها مشكلةُ ضمان التزام الجماعات الإرهابية بشروط عملية السلام، ومشكلةُ التفاوض مع الجماعات التي تدمج بين الأهداف القومية والإرهاب والأهداف العالمية مثل تنظيم القاعدة، فضلًا عن مشكلة تمثيل الإرهابيين في المفاوضات، والأساس القانوني الذي يجب أن تكونَ عليه المفاوضات.

الموقف من التفاوض
اختلف موقفُ الحكومات في مِنطَقة الساحل الإفريقي من التفاوض مع التنظيمات الإرهابية بين حكومة وأُخرى، وبين حِقبة زمنية وأُخرى، كما اختلف موقفُ التنظيمات الإرهابية من التفاوض أيضًا ما بين تنظيمات أيَّدت التفاوضَ مثل «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأُخرى عارضت التفاوضَ مثل «داعش الصحراء».

وقد أعربت بعضُ الحكومات عن استعدادها للتفاوض مع التنظيمات الإرهابية، ولا سيَّما في مِنطَقة الساحل الإفريقي، وتُعَدُّ مالي وبوركينا فاسو نموذجًا؛ ففي فبراير 2020م قال الرئيسُ المالي السابق إبراهيم بوبكر كيتا: إن حكومته مستعدَّة للحوار مع قادة التنظيمات الإرهابية.

 وبعد انقلاب أغسطس 2020م، أيَّدت السُّلطات المؤقَّتة قرارَ الحوار معهم. وفي بداية المرحلة الانتقالية دافع رئيسُ الوزراء آنذاك مختار أواني عن خِيار التفاوض قائلًا: إنه يتفق وإرادة شعب مالي. وفي مايو 2021م عيَّن المجلسُ العسكري شوجويل كوكالا مايغا رئيسًا جديدًا للوزراء، الذي أقرَّ الدعم الشعبي الواسع للمحادثات مع الإرهابيين.

في عام 2018م بدأت البلدياتُ في الجزء الشَّمالي من بوركينا فاسو قربَ الحدود مع مالي التفاوضَ مع جماعة أنصار الإسلام المرتبطة بحركة نصرة الإسلام والمسلمين. وعبَّرت السُّلطات المركزية عن دعمها للاتفاقات المحلِّية، لكنَّها لم تشارك فيها. ثم أُعلنَ نهجٌ أكثر شمولًا للمحادثات من قِبَل السُّلطات العسكرية الجديدة لبوركينا فاسو، بقيادة المقدَّم بول هنري سانداوغو داميبا، الذي أطاح بالرئيس روش كابوري في ديسمبر 2021م.

أمَّا موقفُ النيجر، فقد عبَّر عنه الرئيسُ محمد بازوم في أبريل 2021م، الذي عيَّن مستشارًا جديدًا هو مصطفى الإمام الشافي، مفاوضًا للوساطة في مِنطَقة الساحل. وفي فبراير 2022م أعلن بازوم إطلاقَ سراح تسعةٍ من قادة الجماعات الإرهابية، وكان في استقبالهم في القصر الرئاسي معلنًا فتحَ الحوار والمفاوضات.

وفيما يأتي نستعرض المواقفَ المختلفة من التفاوض مع الجماعات الإرهابية في الساحل الإفريقي، وغايات الجماعات الإرهابية من التفاوض، وشروط نجاح التفاوض:

1)    موقف التنظيمات الإرهابية من التفاوض

جماعةُ «نصرة الإسلام والمسلمين» من أهمِّ التنظيمات المبايعة للقاعدة في المنطقة، وهي أكثرُ التنظيمات ميلًا إلى التفاوض، وقد أظهرت استعدادَها للتفاوض مع حكومة دولة مالي، في بيان أصدرته في مارس 2020م، واشترطت خروجَ الجيش الفرنسي من البلاد. ولذلك يعتقد بعضُ الخبراء أنه في حال إحراز تقدُّم في المفاوضات مع نصرة الإسلام والمسلمين، فإن تنظيم «داعش الصحراء» سيحاول تقويضَ مفاوضات السلام، كما حاولت ولايةُ خراسان التابعة لتنظيم داعش تقويضَ مفاوضات السلام بين طالبان والولايات المتحدة في أفغانستان.

ومع أن بعض الدراسات تستشهدُ بأمثلةٍ على تفاوض فصيل داعش غرب إفريقيا (فصيل منشق عن بوكو حرام) مع الحكومة النيجيرية، اتجه تنظيمُ داعش الرئيس إلى معاقبة القادة المؤيِّدين للتفاوض مع الحكومات دون الرجوع إليه.

​2)    أهداف التنظيمات الإرهابية من التفاوض

غالبًا ما تلجأُ التنظيمات الإرهابية إلى المفاوضات مع الحكومات لتحقيق مكاسبَ سياسية وإستراتيجية، وفي مِنطَقة الساحل الإفريقي يمكن قراءةُ أهداف هذه التنظيمات على النحو الآتي:

  • إظهار انفتاح التنظيم على الحوار، وأنه كِيانٌ سياسي مستعدٌّ للتواصل مع خصومه عبر القنوات السياسية. وفي هذا الصَّدد حاولت جماعةُ نصرة الإسلام والمسلمين إبرازَ نفسها تنظيمًا موافقًا على التفاوض مع حكومات المنطقة، على خلاف تنظيم داعش الذي يرفض التفاوضَ بحزم، وينافسه في السيطرة على مناطق العمليات.
  • الحصول على الشرعية الدَّولية، وهو هدفٌ وطموح يُراود معظم التنظيمات الإرهابية، وتستلهم جماعةُ نصرة الإسلام والمسلمين من تجرِبة حركة طالبان التي انخرطت في مفاوضات مع الحكومة الأمريكية، ونجحت في كسر دائرة الحصار المحكَمة التي تعزلها عن العالم.
  • المشاركة السياسية والوصول إلى السُّلطة، فقد طالبت جماعةُ نصرة الإسلام والمسلمين بانسحاب القوَّات الفرنسية من دولة مالي، مثلما طالبت جماعةُ طالبان بانسحاب القوَّات الأمريكية من أفغانستان. وكان لاستيلاء طالبان على السُّلطة في أفغانستان في أغسطس 2021م صَداه على قادة نصرة الإسلام والمسلمين، حين نشر إياد أغ غالي قائدُ التنظيم في 10 أغسطس قبل خمسة أيام من سقوط العاصمة الأفغانية كابول، رسالةً وصفَ فيها عملية إعادة (هيكلة) قوَّات برخان لمكافحة الإرهاب، بأنها انتصارٌ لتنظيمه، وهنَّأ طالبان على «الانسحاب التاريخي» للقوَّات الأمريكية.
  • كسب الوقت وإعادة ترتيب الصفوف، بعدما فقدت جماعةُ نصرة الإسلام والمسلمين مئات المقاتلين وعددًا من كبار القادة. واقتصرت سيطرتُها على عددٍ قليل فقط من المقاطعات في شماليِّ مالي ووسَطها، وأصبحت تحتلُّ المناطق الريفية خارجَ المدن الرئيسة.
  • كسب التأييد الشعبي، فغالبًا ما توجِّه جماعةُ نصرة الإسلام والمسلمين خطابها إلى الشعب المالي وليس إلى الحكومة، على سبيل المثال: استغلَّت الجماعةُ موجةً من مشاعر العَداء لفرنسا في البلاد، في عام 2019 حتى أوائل 2020م، وحاولت الاستفادةَ من إحباط الجمهور بالقول: إنهم يؤيِّدون المحتجِّين في مطالبهم، في حين ينتقدون الحكومةَ لوقوفها إلى جانب فرنسا. 

3)    تحدِّيات التفاوض مع التنظيمات الإرهابية

لا شكَّ أن التفاوض مع التنظيمات الارهابية عملية ممتدَّة ومعقَّدة، ترتبط بحسابات كلِّ طرف وتقويمه للمكاسب التي يمكن أن يحقِّقَها من التفاوض، لذلك غالبًا ما تواجه العمليةَ بعضُ التحدِّيات، أبرزها:

  1. الخلاف على طبيعة الدولة أدينية أم عَلمانية؛ إذ يجد بعضُ القادة السياسيين أن مطالب التنظيمات الإرهابية بأسلمة القانون ومؤسسات الدولة، مثيرة للقلق. على سبيل المثال: تطالب جماعةُ نصرة الإسلام والمسلمين بتغييرات تتفق مع خطابها العقيدي؛ لفرض رؤيتها المتشدِّدة، فيما تتمسَّك الحكومةُ بمبدأ العَلمانية التي يقرُّها الدستور مع الديمقراطية والدولة القومية، مبادئَ أساسية.
  2. التوجُّس من سيطرة التنظيمات على السُّلطة؛ إذ تتوجَّس بعضُ حكومات دول الساحل الإفريقي من استغلال هذه التنظيمات لانخراطها السياسي في الوصول إلى السُّلطة، بعد اعتراف الحكومة الوطنية بها، ومن ثَمَّ تكرارُ تجرِبة طالبان. فقد تستغلُّ جماعة نصرة الإسلام والمسلمين قرار انسحاب فرنسا من دولة مالي في بيئة مواتية من عدم الاستقرار السياسي، بالزحف والاستيلاء على السُّلطة فيها.
  3. تفاقُم حالة عدم الاستقرار السياسي؛ إذ البيئة هناك تموجُ بالانقلابات العسكرية المتكرِّرة، ممَّا يثير القلق من أن هذه المفاوضاتِ قد تؤدِّي إلى انقساماتٍ في صفوف الجيش، أو تعمِّق الانقساماتِ السياسيةَ الداخلية. وقد أعربت النُّخَب العَلمانية في مالي والفِرَق الصوفية ونشطاء حقوق الإنسان عن قلقها من جرَّاء التفاوض مع التنظيمات الإرهابية، التي تعارض رؤيتُها دستورَ الدولة.
  4. صراع الأجنحة وهيمنة التنظيم الأمِّ على الفروع؛ إذ تمثِّل المفاوضات فرصةً لاستقطاب التيارات المعتدلة في التنظيمات الإرهابية وعزلها وتحييدها، لكن يتعذَّر التفاوضُ مع بعض التنظيمات الفرعية دون موافقة التنظيم الرئيس. حتى داخلَ تنظيم كتيبة ماسينا، لايزال الحوارُ قضيةً خلافية؛ ففي نوفمبر 2019م انشقَّ كثيرٌ من مقاتلي التنظيم للانضمام إلى داعش، مشيرين إلى الاستياء من استعداد الكتيبة للدخول في حوار مع حكومة مالي.
  5. موقف القوى الدَّولية؛ إذ أثار انسحابُ قوات فرنسا من مالي تأويلات مختلفة، غير أنها لا تزال تحتفظ بوجود عسكري في النيجر، وبعض دول الساحل وغرب إفريقيا، ولا يزال موقفها النهائي غامضًا بشأن التفاوض مع التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وإن كانت قد أكَّدت في أكثرَ من مناسبة موقفَها الرافضَ للتفاوض مع التنظيمات في المنطقة.
  6. موقف التنظيمات المستبعَدة من المفاوضات؛ إذ يُتوقَّع أن تتَّجهَ هذه التنظيماتُ إلى وضع العراقيل أمام المفاوضات. وإن امتداد تلك التنظيماتِ إلى داخل دول الجوار سيُضعف احتمالات تطبيق أيِّ اتفاق قد تُؤدِّي إليه المفاوضات، على نحوٍ يوحي بأن هذه المهمَّةَ لن تكونَ سهلةً في المرحلة القادمة.

4)    شروط نجاح التفاوض

إن تقويمَ نتائج التفاوض مع التنظيمات الإرهابية والحركات المسلحة، والإقرارَ بنجاحها أو إخفاقها مسألة نسبية؛ لأن ما تعُدُّه الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة نجاحًا في حالة التفاوض مع حركة طالبان، تعُدُّه حكوماتٌ أُخرى إخفاقًا ذَريعًا. وهذا يعني أن التفاوضَ في ذاته ليس بالضَّرورة الِخيارَ الأمثل لمكافحة الإرهاب، وإنما هو وسيلةٌ تسعى بها الأجهزةُ الأمنية والاستخبارية إلى تحييد الأجنحة المعتدلة داخلَ التنظيمات الإرهابية، وإحداث تفكيكٍ داخلَ هذه التنظيمات بوسائلَ سياسية. ويمكن ذكرُ عددٍ من الشروط التي يجب توافرُها قبل الشروع في الجلوس مع التنظيمات الإرهابية على طاولة التفاوض:

  • الوقت الملائم والقناعة:

اتبعت التنظيماتُ الإرهابية التي انخرطت في محادثاتٍ في مِنطَقة الساحل الإفريقي إستراتيجيةً هجينة تجمع بين التفاوض والاستمرار في العنف، واستثمار التفاوض والهُدنة من أجل إعادة ترتيب صفوفها وكسب الوقت والدعم الشعبي. وربما وجدَت جماعةُ نصرة الإسلام أن الوقت مُلائم وفي صالحها عندما وافقت على التفاوض؛ لأنها كانت مُنهكةً من الضرَبات العسكرية التي استهدفت كبارَ قادتها، ولكنَّ السُّلطات في دولة مالي لم تستثمر الظروف كما ينبغي؛ إذ كانت مضطرَّةً إلى إبداء رغبتها في التفاوض للتخفيف من وطأة الضغوط الداخلية والخارجية التي تعرَّض لها المجلسُ العسكري حينئذ. ومن ثَمَّ لم يكن الوقت مُلائمًا للسُّلطات للتفاوض على تسوية سياسية.

  • توافق جميع الأطراف:

يُلاحَظ من متابعة المحادثات التي جرت بين حكومات دول المنطقة والتنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل، أنه حتى الآن لايزال النمطُ غير الرسمي عبر الوكلاء المحلِّيين هو النمطَ الطَّاغيَ على عملية التفاوض، وظلَّ المسارُ الرسمي للتفاوض معطَّلًا أو مؤجَّلًا، ومن ثَمَّ فإن المحصِّلة النهائية أن السُّلطات المالية شاركت في بعض المفاوضات بإرسال مبعوثين ودعم الوسطاء، إلا أنها لم تتفاوض على قضايا جوهرية! وعُنيت جُلُّ المفاوضات بحماية المدنيين وتسهيل عودة النازحين، ورفع الحصار الإرهابي، وتطهير نِقاط التفتيش للسَّماح للسكَّان المحلِّيين بالوصول إلى مزارعهم وإلى الأسواق.

  • تخلِّي الفروع عن الأصول:

تذكر بعضُ التقارير أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين منذ عام 2017م، لم تطبِّق حدودَ الرجم أو قطع الأيدي، بيدَ أنه ليس هناك ما يشير إلى أنها لن تعودَ إلى تطبيق تلك الحدود، لا سيَّما إذا تعرَّضت لضغوط من تنظيم القاعدة. لذا فإن استمرار الارتباط بين القاعدة وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين مصحوبًا بازدياد مستويات العنف من جانب الأخيرة، يثير مشكلةً كبيرة تؤثِّر في التفاوض على تسوية سياسية معها.

  • الاستعداد الجادُّ للتفاوض:

لا تزال بعضُ الحكومات تواجه تحدِّيَ الاستعانة بالمفاوضين ذوي الكفاءة؛ إذ يمكن لمسؤولي المخابرات أن يكونوا فعَّالين في التوسُّط في صفَقات المعاملات، أو إخفاء المحادثات التي يمكن أن تكون محرجةً أو مثيرة للجدل. لكنَّ الحديث عن المبادئ السياسية والمؤسَّسية والدينية يجب أن يتولَّاها وسطاءُ سياسيون ودينيون ذوو خبرة. ومن جهة أُخرى تفتقد جماعةُ نصرة الإسلام والمسلمين القدُرات السياسية والدبلوماسية التي امتلكتها جماعةُ طالبان؛ فقد كان لمكتبها السياسي أثرٌ حاسم في تسهيل الحوار والتفاوض معها.

  • دور الوسيط المقبول:

تفتقد المفاوضاتُ في منطقة الساحل الإفريقي للوسيط الدَّولي، وهي عقَبةٌ في الحوار بين حكومة مالي وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين. وقد تكون بعض دول الجوار خِيارًا مناسبًا؛ لما لديها من بعض النفوذ على قادة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، فقد تنجح في تقييد تحرُّكاتهم بالتشديد على الحدود أو حرمان أُسَرهم من الملاذ الآمن. فضلاً عن وجود سابق خبرة لبعض دول المنطقة في إدارة التفاوض بين هذه التنظيمات وعلماء المسلمين المحلِّيين.

وفي المجمل فإن التفاوض غير الرسمي عبر الوكلاء المحلِّيين لا يزال خِيارًا مفضَّلًا للحكومات والتنظيمات الإرهابية في المنطقة على حد سواء، ففي بعض الحالات نجح التفاوضُ في التوصُّل إلى اتفاقات هدنة، وإلى الإفراج عن عدد من الرهائن والمعتقلين، وخفض مستويات العنف ولو مؤقَّتًا.

ولذا فقد يكون من الملائم لدول منطقة الساحل إكمالُ هذا النهج في التفاوض مع التنظيمات الإرهابية في قضايا محدَّدة، والاستمرار في اتباع إستراتيجية تجمع بين العمل العسكري وفتح قنوات الحوار السياسي مع التنظيمات الإرهابية ممَّا يمكنها من تحييد العناصر والتيارات المعتدلة.