المناصحة مفهومٌ شرعيٌّ، ينطلق من الثوابت الشرعية للدِّين الإسلامي، وهي ليست بدعًا من القول؛ بل هي مفهومٌ يستند إلى توجيه رباني، تدلُّ عليه النصوص الشرعية والتوجيهات النبوية الفعلية والقولية.

فالنصيحة في اللغة: مشتقة من الفعل نصَحَ، ومعنى نصَحَ: خَلَصَ وأصلح، يقال: نَصَحَ الرجلُ ثوبَه إذا خاطه، فشبَّهوا فعلَ الناصح فيما يتحرَّاه من صلاح المنصوح له بما يفعل راقعُ الثوب عندما يسدُّ الخلل، فالناصحون يسدُّون الخلل، وإذا لم يُنصَح الناس بقي خرقٌ في المجتمع. قال ابنُ الأثير: النصيحة كلمة يعبَّر بها عن جملةٍ هي إرادة الخير للمنصوح له. فإذا كنتَ ناصحًا للناس، فأنتَ تريد لهم الخير، وإذا كنتَ لا تنصَحُ الناس، فأنتَ لا تريد للناس خيرًا.

وتكمن أهمية المناصحة في أنها من النصيحة، والنبي ﷺ جعل الدِّينَ كلَّه قائمًا عليها، وذلك حين قال عليه الصلاة والسلام، في حديث تميم الداري، رضي الله عنه: «الدِّينُ النصيحة»، وكرَّرها ثلاثًا، قلنا: لمـَن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتهم».

لذا، نجد في دلالات المناصحة، أنها منهجٌ سديد، وأسلوبٌ مثالي؛ بل وسيلة فاعلة، ثبتت بالواقع قديمًا وحديثًا، فهي طريقة السَّلف الصالح في مواجهة الفتن، جسَّدها الخليفةُ الراشد عثمان رضي الله عنه، فيمَن بغى عليه، وجسَّدها أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وابنُ عمِّ رسول الله ﷺ عبد الله بنُ عباس، في حوارهما مع الخوارج، ولذا فهي جزءٌ من مهمَّة الأنبياء والرسل في الدعوة إلى الله. فهذا نبيُّ الله نوح عليه السلام، يقول لقومه: ﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾ [الأعراف: 61-62]. وقد سار على طريقة نوح عليه السلام، في بذل النصيحة مَن جاء بعدَه من الرسل، منهم نبيُّ الله هود عليه السلام، الذي قال لقومه: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف: 68]. وقالها أيضًا نبيُّ الله صالح عليه السلام: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: 79]، كما قالها شعيبٌ عليه السلام: ﴿لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ [الأعراف: 93].

وقد أخذ النبيُّ ﷺ البيعة من أصحابه ببذل النصح للمسلمين، قال جريرُ بن عبد الله رضي الله عنه: «بايعتُ رسولَ الله، عليه الصلاة والسلام، على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكلِّ مسلم». وشهد الصحابةُ للنبي ﷺ أنه بلَّغ رسالة ربِّه، ونصح لقومه، يقول جابرُ بن عبد الله رضي الله عنهما، إن رسول الله عليه الصلاة السلام قال، يعني لأصحابه: «وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأدَّيت ونصَحْت».

وعلى هذا، فإنَّ المناصحة أسلوبٌ «تكنيكي» فكريٌّ، يسعى إلى تعديل الأفكار الخاطئة في فهم القضايا الشرعية، التي يُقنَع بها ذوو الأفكار المنحرفة المتطرفة. ويستخدم هذا الأسلوبَ ذوو الكفاءة الشرعية والنفسية والاجتماعية، بالحوار الهادئ، والمناقشة البنَّاءة، والموعظة الحسنة، بهدف بناء مفاهيمَ شرعية صحيحة للمستهدَفين، تستند إلى منهج الوسطية والاعتدال.

إنَّ المناصحة فيها إبراءٌ للذِّمة، وإعذارٌ إلى المتطرف الفكري، وإقامة الحجة عليه، ومنحه فرصة لولوج باب التوبة والأوبة والرجوع إلى الله. والباعثُ على الأخذ بهذا المخرَج العظيم مع تلك الفئة المتورِّطة في التطرف العنيف، هو البيانُ والتصحيح لمعتقداتهم المتطرفة الضلالية، ولا سيَّما اعتقادِهم أنهم على الحقِّ، ويسعَون في نصرة الإسلام والمسلمين. ولذلك، في هذا الاتجاه، تُكشف لهم الشُّبهات، وتُقام عليهم الحُجَّة، بمنهج واضح يعتمد النصوصَ والمقاصدَ، وفقه المصالح والمفاسد.

وهذا النهجُ أو الأسلوب الإستراتيجي في التعديل الفكري، له أهميَّته وأثره في إصلاح مَن ضلَّ وانحرف فكريًّا، ذلك أنه يتعامل مع الفكر، والفكر يمثِّل في غالبه صورةً باطنة، يُستدلُّ عليها بالظواهر، ويُتعامل معها بكشف الشُّبه، وتأصيل المسائل، وإيضاح الحق، ومع ذلك فقد لا يحصل تقدُّم وتحوُّل فكري لبعض هذه الفئة! وهذا لا يَعيبُ المناصحة، فكلُّ جهد إنساني لا يخلو من المواقف الاستثنائية، إضافة إلى أنَّ فنيات التعديل الفكري في المناصحة تعتمد على الشبهات والقضايا التي تُرصَد لدى المتورِّطين في التطرف، وقد لا تمثِّل حقيقة المعتقَد لديهم، أو أنهم يزعمون الاستفادة من باب المخادعة والكذب، وإظهار خلاف الباطن، وفي شريعة الإسلام تُجرى الأحكام على الظواهر.

وبناءً على ذلك، فإنَّ فنَّ المناصحة الذي يُعدُّ حجرَ الزاوية، والعنصر الأكثر تأثيرًا في إستراتيجيات التعديل الفكري، يستند إلى المنطلقات الشرعية، من الكتاب والسنَّة وآثار السلف الصالح، وهو يسعى إلى البحث عن الجذور الفكرية الانحرافية واستظهارها، لتفنيدها بأسلوب علمي شرعي، استنادًا إلى ما جاء في الوحيين، وذلك بتدخل علماء الشريعة في الحوار والنقاش مع الفئة المتورِّطة في التطرف العنيف، وتصحيح المعتقدات الدينية التي يعتنقونها ويؤمنون بها، بسبب فهمهم الخاطئ والمغلوط لها، والعمل على إقناعهم بأن المسوِّغ الديني أو الشرعي الذي استندوا إليه غير صحيح وفاسد، وأنه ينمُّ عن فهمٍ مغلوط للإسلام وأهدافه السامية.

ولذلك، فإنَّ ما يُميِّز هذا الأسلوب، أنه يمنح هذه الفئة المتطرفة فكريًّا فرصةَ التعبير عن القضايا الشرعية والحياتية التي لديهم فيها شكوكٌ أو ضبابية، وكذلك كل الدلالات النصية التي تستند إليها، فتُناقَش كلُّ قضية على حِدة، نقلًا وعقلًا، بكلِّ شفافية، في جوٍّ من الإشفاق والرغبة في الإصلاح، حتى الوصول إلى جَلاء الحقيقة وتنقيتها من الأفكار المشبوهة، والعودة بها إلى الفكر السَّوي. 

ولهذا، فإنَّ المناصحة تهدف إلى تصحيح الأفكار، وردِّ الشبهات الدينية التي يقع فيها المتورِّطون في التطرف والعنف، باستخدام النصيحة أو فنِّ المناصحة؛ لأنَّ المناصحة هي الأبلغ أثرًا في النفس، وتُشعِر المتطرفين بالحبِّ والرأفة والأخوَّة والأبوَّة.

وقد يكون مناسبًا لفتُ النظر إلى أن مفهوم النصيحة لا يختلف في المعنى عن المناصحة، فالمفهومان يؤدِّيان المعنى نفسه، ومن ثَمَّ فليس صحيحًا ما يزعمه بعضُ الناس أن المناصحة ليس لها عَلاقةٌ بالنصيحة أصلًا، وزعمهم أنَّ ما يكون في إستراتيجيات التعديل الفكري من تأهيل ديني لا يدخل في مفهوم النصيحة. فهناك خلطٌ شديد بين الكلمتين؛ فالنصيحةُ خِيار، أما المناصحةُ فهي إلزامٌ فكري، والنصيحةُ تسمح بالجدل وتبادل الرأي، أما المناصحةُ فهي إقناعٌ حتى النهاية. وكلُّ ذلك يأتي من باب التفريق المتعسِّف الذي لا يستند إلى دليلٍ علمي أو لغوي أو ديني، فكلا المفهومين يؤدِّي المعنى نفسه؛ إرشادًا أو توجيهًا أو هدايةً، ويحقِّق في النهاية النتيجة نفسَها.

وعلى الرغم من ذلك، نجد أن مفهوم المناصحة ارتبطَ بحقيقة التأهيل الفكري، وأصبح من الشائع استخدامُ هذا اللفظ للدلالة على تعديل فكر التطرف والسلوك العنيف، وهو ما لم يحظَ به أيُّ مفهوم آخر من تلك المفاهيم المرادفة له. ولا ضيرَ في ذلك؛ لأن العبرة بالنتيجة، وليست بالمفاهيم التي يقع الخلطُ في كثير منها، أو في مدلولاتها، أو في مراميها. فالمناصحةُ هي: حديثٌ يدور بين طرفين (ناصح ومنصوح) تُستَجلى فيها الحقائقُ الشرعية، بحيث يقدِّم فيها الناصحُ الأدلةَ والبراهين من النصوص الشرعية، على بطلان وفساد ما يعتنقه المنصوح من فكرٍ يخالف وسطيةَ الإسلام وسماحته، وتفنيد الشبهات أو الأدلَّة التي يعتمد عليها في معتقده، دونما إكراه أو تعالٍ من الناصح، بما يؤكِّد للمنصوح إرادةَ الخير له، والرأفة به من خطر الانحراف الفكري، وما يترتَّب على ذلك من عقوبات دنيوية وأخروية.

وفي هذا الاتجاه، فإنه من المناسب، ونحن نتحدَّث عن مفهوم المناصحة، الإشارةُ إلى بعض المفاهيم التي تُفسَّر بها المناصحة، وهي ليست كذلك تمامًا، ولكنَّها قد تكون إحدى الطرق التي تُتَّبع في أثناء التأهيل الديني. ومن تلك المفاهيم: الحوار، والنقاش، والبرهان، والإقناع، وهذه المفاهيم لا تعبِّر عن المناصحة، ولا تأتي بمعناها، وإنما هي أدواتٌ لها؛ مع ملاحظة أنَّ مصطلح الإقناع ليس المقصودُ به ما يُسمَّى (الإقناع القَسْري)، ذلك أنَّ الإقناع الذي يُمارس ضمنَ فنيات المناصحة يُعبِّر عن القدرة التأثيرية في الاتجاهات والاعتقادات أو السلوك، بإحداث تغيير في آراء الآخرين وأفكارهم ومعتقداتهم، حتى يكونوا أكثر تقبُّلًا لوجهة النظر نحو رأي مستهدَف في موضوع محدَّد، وذلك بعرض الحقائق بأدلَّة مقبولة وواضحة. والإقناعُ بهذا المفهوم من أساليب المناصحة، إذا انطلق من دلائل نصيَّة دينية شرعية. أما الإقناعُ القَسْري فيختلف عن ذلك، فهو عملية إحداث تغيير فكري بالقوة والترهيب، بهدف غسل الدماغ؛ إذ يُستخدَم غالبًا في العمليات الاستخبارية، أو تجاه أسرى الحرب، كما فعل الصينيون في أسرى الحرب الأمريكيين، بوصفها حالة إقناع قسري في سياق عملية تأثير اجتماعي، وهي عملية قسرية مبنية على توظيف بارع للمبادئ النفسية والاجتماعية التي تحكم السلوك البشري.