تسعى الجماعاتُ الإرهابية في الأرض فسادًا، وتستبيحُ القتل والتخريبَ والتدمير بحُجَج واهية، ومُعتقَدات باطلة؛ لبسط نفوذها، وتوسيع قاعدتها. ومن هذه الجماعات: تنظيمُ داعش أحد أبرز التنظيمات الإرهابية وأكثرها وحشيَّةً وفتكًا، وتنظيمُ القاعدة المنتشر في أفغانستان والعراق وسوريا، وتمتدُّ هجَماته إلى إفريقيا وأوروبا وأنحاءٍ أخرى من العالم. وحركة الشباب الصومالية الخطر الأكبر الذي يهدِّد أمنَ الصومال ودول الجوار، وجماعة بوكو حرام في نيجيريا، التي تمادت في ارتكاب جرائم الخطف والقتل والاضطهاد والعنف الجنسي. وجماعة نصرة الإسلام المصنَّفة ضمن أخطر التنظيمات في مِنطَقة الساحل الإفريقي؛ كونها تضمُّ أكبرَ تحالف موالٍ لتنظيم القاعدة، فضلًا عن مئات الجماعات الأخرى المنتشرة في أرجاء العالم.

بين الماضي والحاضر
منذ نشأة هذه الجماعات وهي تبحثُ عن وسائلَ لضمِّ أكبر عدد من الموالين والأعضاء الجدُد، وإعدادهم ماديًّا ومعنويًّا لخدمتها، والقيام بمصالحها، والانخراط في أنشطتها. فمع نهاية الألفيَّة الثانية كان التجنيدُ يعتمد على المساجد والمدارس والجامعات ومعسكرات الطلبة وفِرَق الكشَّافة، وأغلبها يعتمد على العَلاقات الشخصية، والتفاعل وجهًا لوجه، مع وسائلَ مكمِّلة، مثل: المنشورات، والأشرطة السمعية، والأشرطة البصرية؛ التي تعتمد في استمالتها للشباب على إثارة العاطفة الدينية، في أحاديثَ جذَّابة ومتحدِّثين مشاهير. 

غير أن تلك الوسائلَ تطوَّرت كثيرًا حاليًّا؛ بعد ظهور تقنيَّات الذكاء الاصطناعي، وشبكات الإنترنت، ومواقع التواصُل الاجتماعي. فباتت مواقعُ التواصل أهمَّ الوسائل وأخطرها لدى الأجيال من أبناء هذه التنظيمات، وتعتمد عليها في استدراج أكبر عدد من الشباب، وإقناعهم بأفكارها، وتشجيعهم على الانضمام إلى أعضاء التنظيم في مَيدان القتال، أو دعمهم من بُعد. وتستخدمها الجماعاتُ الإرهابية أيضًا للتواصل بين قادتها وعناصرها، ولا سيَّما في ظلِّ الانتشار الجغرافي الواسع لها، وتوزُّع الأفراد المستهدَفين بالتجنيد في أنحاء العالم، فضلًا عن تحديث الأخبار المتعلِّقة بأنشطتها، وبثِّ البيانات والخطب والمقاطع المصوَّرة والتسجيلات الصوتية التي تدعم خطابها، والموادِّ التي تسترعي انتباه الفتيان والمراهقين، كألعاب الفيديو وقصص الأطفال والأناشيد. وبموازاة ذلك تُنشر رسائلُ تحرِّض على العنف، وتُروِّج ارتكابَ الأعمال الإرهابية، لينتهيَ الأمر ببعض المستهدَفين إلى الاتصال المباشر بالعناصر المتطرفة والانضمام إلى صفوفها. ويُبرز استخدامُ الجماعات الإرهابية لشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على نحوٍ واسع، حتى أصبحت سلاحًا فعَّالًا، تستطيع به اختراق الدول، وتهديد أمنها واستقرارها. 

مميِّزات كثيرة 
ويرجع الاستخدامُ المرتفع لوسائل التواصل الاجتماعي في عمليات التجنيد إلى المميِّزات التي تمتاز بها، فقد أحدثت نُقلةً في تلك العمليات؛ إذ تُجرى على نطاق عالمي مُجدٍ. فهي لا تعترف بالحواجز والحدود بين الدول، وبإمكان عضو التنظيم في أيِّ مكان من العالم أن يُجريَ حوارًا مع شخصٍ ما وهو في غرفة نومه، أو يُنشئَ غُرفَ حوار تضمُّ أشخاصًا كثيرين يقطُنون في بلدان مختلفة، أو ينشرَ مقطعًا مصوَّرًا ليشاهدَه ملايينُ الأشخاص في وقت واحد. 

وتتيحُ هذه الوسائل ميزةَ التخفِّي والسرِّية؛ فهي بعيدةٌ إلى حدٍّ ما عن أعين الدولة، وتصعُب السيطرة عليها من قِبَل الأجهزة الأمنية، ويمكن للفرد أن يُنشئَ حسابًا باسم وهميٍّ، وحالَ إغلاقه يمكنه العودة بعشَرات الحسابات الأخرى. فضلًا عن طبيعتها المفتوحة، ووصولها إلى فئات مختلفة وأعداد كبيرة من الجمهور، وانخفاض تكلِفتها، وسهولة استخدامها؛ إذ لا تحتاج إلى أكثرَ من حاسوبٍ أو هاتف محمول متَّصل بشبكة بالإنترنت.

ومن أشهر وسائل التواصل المستخدَمة في عمليات التجنيد: فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب. وغالبًا ما تُنشئ التنظيمات الإرهابية حساباتٍ خاصَّةً لها على هذه المواقع، ومجموعاتٍ لاجتذاب المتوافقين معها فكريًّا؛ إذ تحاول ربطَهم بقضية واحدة، وقِيَم متماثلة، وهدف مشترك؛ ليسهلَ استقطابهم. على سبيل المثال: تمتلك جماعة «بوكو حرام» النيجيرية حسابًا على تويتر يتابعه آلافُ المشتركين، وينطبق الأمر ذاتُه على «حركة الشباب» في الصومال. 

وتُنشئ هذه الجماعاتُ حساباتٍ أخرى على وسائل التواصل الأقلِّ شهرةً؛ لاستخدامها حالَ حذف الموادِّ من قِبَل مديري صفَحات فسيبوك أو تويتر. ويبحث عناصرُ تنظيم داعش المعنيُّون بالدعاية الإلكترونية عن الوسوم (الهاشتاجات) النشيطة، والموضوعات الأكثر تداولًا، وعن أكثر المشاهير متابعةً؛ لاختراقها وترويج دعايتها والدعوة إلى التجنيد فيها.

أرقامٌ وحقائقُ
تشير إحصائيَّات نُشرت حديثًا إلى أن نحو 4.48 مليار شخص يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يعادل %56 من سكَّان الأرض، وفي المدَّة ما بين يوليو 2020م ويوليو 2021م انضمَّ نحو 520 مليون مستخدِم جديد، ممَّا يعني أن نحو 1.4 مليون مستخدم جديد ينضمُّون يوميًّا إلى هذه الوسائل. وبحسَب التقرير فإن %91 من مستخدمي وسائل التواصل يصلون إليها من أجهزتهم المحمولة. ولا شكَّ أن هذه الحشودَ الضخمة المنتشرة على وسائل التواصل دافع قويٌّ لاهتمام الجماعات الإرهابية بوسائل التواصل الاجتماعي في عمليات التجنيد. 

ومع أن تنظيم داعش الإرهابي لم يكن السبَّاقَ إلى استخدام هذه الوسائل، يبقى الأكثرَ نشاطًا وحضورًا على مِنصَّاتها؛ فلديه فِرقٌ إلكترونية على درجةٍ عالية من الخبرة والاحتراف، قادرةٌ على إدارة حسابات في فيسبوك وتويتر ويوتيوب على نحوٍ فاعل، وهو يمتلك أدواتِ المعرفة والتقنيَّات التي تمكِّنُه من اختراق هذا العالم الافتراضي، وابتزاز الشباب عاطفيًّا ومادِّيًّا لضمِّهم إليه. وتُشير الإحصائيَّات إلى أن %80 من المنتسبين إلى تنظيم داعش جُنِّدوا بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي، وأن أعدادًا تقدَّر بالآلاف ينضمُّون إلى التنظيم سنويًّا بواسطة حمَلات التجنيد الإلكترونية. 

ومن الغريب حقًّا أن بعض الجماعات تنشُر في بعض الأحيان إعلاناتٍ تصرِّح فيها عن حاجتها إلى عناصرَ انتحارية، كما لو كانت تُعلن وظائفَ شاغرةً في وِزارة الدفاع أو الخارجية! مستخدمةً العواطف الدينية مدخلًا للشباب والمراهقين، فهي تحثُّهم على الجهاد والدفاع عن أرض الخلافة، وإقامة شرع الله، والاستشهاد في سبيل الله، والفوز بالجنَّة. وتستهدف الجماعاتُ الإرهابية الشباب بالمحتوى الإلكتروني الملائم لأعمارهم وطموحاتهم، ثم الانفراد بمستخدِم واحد وعزله عن محيطه الأسري. ممَّا دفع بعض هذه الحسابات إلى حذف المحتوى المتطرف، كما فعل موقع تويتر في منتصف عام 2015م، فقد أغلقَ نحو 125 ألف حساب تُشجِّع على الأعمال الإرهابية وتهدِّد الأفراد.

الألعاب الإلكترونية 
ومع وسائل التواصل الاجتماعي تستغلُّ الجماعاتُ الإرهابية الألعاب الإلكترونية أيضًا لتجنيد الأتباع، ولا سيَّما الأطفالِ والمراهقين، فهي أكثرُ تعقيدًا، وأقلُّ تعقُّبًا من قِبَل الجهات الأمنية. وتُظهر الدراسات الحديثة أن واحدًا من كلِّ عشرة أطفال يُدمن هذه الألعاب، ويتأثَّر بها، ممَّا يمكن أن يُحدثَ فيه نوازعَ عنيفة، تحوِّله إلى شخص عُدواني مبغض للمجتمع، وتاريخُ الألعاب الإلكترونية حافل بالعنف. 

وكثيرٌ من هؤلاء الأطفال غالبًا ما يعتزلون المجتمع، ويقضون أغلبَ أوقاتهم في ممارسة هذه الألعاب، بعيدًا عن رقابة الأسرة. ولضعف خبرتهم العملية والحياتية؛ يصبحون فريسةً سهلة لهذه الجماعات، وسَرعان ما تنفُذ إليهم لتخرِّب عقولهم، وتدمِّر حاضرهم ومستقبلهم؛ إذ تجعل من العنف مصدرًا للمتعة، وتأكيدًا للذات. وقد وقعت بعضُ المآسي نتيجةَ التأثُّر بهذه الألعاب وازدياد السلوك العنيف.

وكشفت «صحيفةُ القبَس» الكويتية نموذجًا واقعيًّا لإحدى عمليات التجنيد من هذا النوع، ضحيَّتها أطفالٌ كويتيون غُرِّر بهم بواسطة هذه الألعاب، فقد ألقى جهازُ أمن الدولة القبضَ على ستة فتيان (أحداث) في ديسمبر عام 2020م كانوا على تواصل مع تنظيم داعش، وصُودرت عدَّةُ حواسيبَ تحتوي على مراسلات مع التنظيم الإرهابي. وفي التحقيق اعترف أحدُهم بأن شخصًا تواصل معه عبر إحدى الألعاب الإلكترونية الشهيرة، وتعمَّد الانضمام إلى فريقه في هذه اللعبة، وبعد مرور أسبوع تواصل معه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتحدَّث معه عن الفكر الداعشي، مستغلًّا العاطفة الدينية، حتى أقنعه باعتناق هذا الفكر المنحرف، وطالبه بوضع أعلام تنظيم داعش في غرفته الخاصَّة بمنزل أسرته، على أن يُرسل له دعمًا ماليًّا سخيًّا لتجنيد بقيَّة أصدقائه.

وما تقدَّم بلا ريب يثير القلق، ويدعو إلى الحِيطة والحذر؛ حفاظًا على أبنائنا من خطر التورُّط باتِّباع هذه الجماعات، أو الاقتناع بآرائهم وأفكارهم. ويجب تبصيرهم بهؤلاء المتربِّصين بهم، وتحصينهم بالفكر السليم، مع أهمية إبلاغ الوالدين حين يتعرَّضون لمثل هذا الاستغلال، وإغلاق كل السُّبل أمام وصول هذه الجماعات إلى النشء، والتأثير فيهم.

ختامًا
نجحت الجماعاتُ الإرهابية في استخدام وسائل التواصل لتجنيد مزيد من العناصر في صفوفها، ولا سيَّما فئات الشباب والمراهقين الذين يضيقون بالتهميش وعدم الاهتمام. وإن التصدِّيَ لهذا الخطر يجب أن يسيرَ في اتجاهين: 

أولهما: التصدِّي لهذه الجماعات على وسائل التواصل الاجتماعي، بحذف حساباتها، ومنع محتوياتها الإرهابية، وإصدار التشريعات التي تساعد على تحقيق هذه الأهداف. مع إعداد فِرق أمنية مؤهَّلة تأهيلًا إعلاميًّا؛ يمكِّنها من صياغة رسائلَ واضحة ومؤثِّرة وصادقة، تستطيع مواجهة الأكاذيب التي تبثُّها مواقع الجماعات الإرهابية. 

ثانيهما: الحفاظُ على الشباب والمراهقين من الوقوع في مصيدة هذه التنظيمات؛ بالعناية بالجوانب النفسية والثقافية والاجتماعية التي تدفع نحو التطرف وممارسة العنف المنظَّم، وتقويم التصرُّفات السلوكية للمنخرطين في التطرف في مراحلَ مبكِّرة؛ لمنعهم من التورُّط في هذه الجماعات، ونشر الوعي التِّقني بوسائل التعامل المُثلى مع مواقع التواصل الاجتماعي، وتدريب الشباب على الاستخدام الآمن لها، وتعريفهم خطرَ الإرهاب الإلكتروني، وكيف يمكن أن يقعوا فريسةً له دون انتباه منهم.