​​تشهد دولُ أمريكا اللاتينية حضورًا إرهابيًّا متنوِّعًا تتباين حدَّته بين دولة وأُخرى، وهو ما يؤكِّدُه مؤشِّر الإرهاب العالمي الذي أصدره معهدُ الاقتصاد والسلام IEP عام 2022م، والذي يذهب إلى أن مستوى الإرهاب هناك ازداد كثيرًا عمَّا كان عليه قبل عقد من الزمن؛ حتى بات تحدِّيًا خطِرًا في وجه المجتمع الدَّولي بأسره، ولا سيَّما أن كثيرًا من تلك البلاد أصبحت مركزًا خِدْميًّا (لوجستيًّا) لبعض التنظيمات الإرهابية، التي تمتدُّ آثارها إلى الشرق الأوسط، وهذا ما يقتضي السؤالَ عن أبرز معالم هذا النشاط، وآفاقه، وسُبل مكافحته.

معالم أوَّلية

تبرز أربعُ دول من أمريكا اللاتينية، في قائمة أعلى خمسين دولةً تأثُّرًا بالإرهاب عالميًّا، وَفقًا للمؤشِّر الذي يرتِّب الدول بحسَب مستوى الإرهاب فيها، بعد رصد مختلِف جوانب النشاط الإرهابي؛ كعدد الحوادث الإرهابية، وعدد الوَفَيات والإصابات، والرهائن والأضرار. وفي مقدِّمة هذه الدول كولومبيا التي جاءت في المرتبة الـ 14 بمؤشِّر 7.06، يليها تشيلي في المرتبة 18 بمؤشِّر 6.49، ثم بيرو في المرتبة 37 بمؤشِّر 4.47، ثم فنزويلا في المرتبة 46 بمؤشِّر 4.005. وهذه النتائج تعبِّر عمَّا تشهده هذه الدولُ من صراعات سياسية أو عِرقية أو فكرية، فضلًا عن نشاط عصابات الجريمة المنظَّمة، والأنشطة غير الشرعية.

وتُعَدُّ واردات السلاح من أبرز المؤشِّرات إلى مستوى التهديدات والتحدِّيات الأمنية التي تتعرَّض لها الدول، سواءٌ التهديداتُ التقليدية؛ كالحاجة إلى تعزيز هُويَّتها القومية، أو غيرُ التقليدية؛ كالتنظيمات الإرهابية على اختلاف أنواعها وتوجُّهاتها، والتجارة غير المشروعة، والجريمة المنظَّمة. وهذه التهديداتُ تزيد من وطأة الأزَمات السياسية والاجتماعية القائمة، مع توفير بيئة خِصبة لاستمرار مُغذِّيات الإرهاب. ونتيجةَ ذلك تتدفَّقُ تلك الوارداتُ في دول أمريكا اللاتينية والكاريبي على جميع القُوى الأمنية والعسكرية الرسمية للدول، وعلى الحركات والقُوى السياسية المعارضة، فضلًا عن عصابات الجريمة المنظَّمة.

ويشير تقريرُ التسلُّح ونزع السلاح والأمن الدَّولي الصادر عن معهد «إستوكهولم» لأبحاث السلام الدَّولي في 2021م، إلى زيادة النفقات العسكرية في تلك الدول عام 2019م، بنسبة بلغت %8.1 بمقدار 8.7 مليارات دولار.

حوافز البقاء

ينشَطُ الإرهاب في البيئة التي تتوافرُ فيها أسبابُه، وتدعم استمرارَه وبقاءه. وفي الإقليم اللاتيني توافرت عواملُ شتَّى أسهمَت في تغذية حالة العنف والإرهاب في بلدانه؛ فبالنظر إلى البيئة السياسية العامَّة، على ما بين دولها العشرين من فروق واختلافات، نجد أنها تحمل مُغذِّيات العنف والإرهاب؛ كغياب الاستقرار السياسي، وضعف الرقابة المؤسَّساتية، ووهن الأحزاب السياسية، وشدَّة الاستقطاب، فضلًا عن حضور الجماعات اليسارية المتمرِّدة التي تسعى إلى التغيير باستغلال النزاع المسلَّح، مثل: القوَّات المسلَّحة الثورية الكولومبية، وجيش «زاباتيستا» للتحرير الوطني بالمكسيك، والطريق المضيء في بيرو، حيث حُملَ السلاح لأهداف سياسية على أنه الحلُّ السريع والمـُجدي، وانتقلت السيطرة الأمنية من سُلطة الدولة إلى الجماعات المسلَّحة غير الشرعية في بعض الأحيان، كما حدثَ في المكسيك.

وقد كان لهذه الأوضاع السياسية أثرٌ واضح في المشهد الاقتصادي، ويذهب تقريرُ الأمم المتحدة عن الوضع الاقتصادي العالمي وآفاقه، إلى أن ضعفَ برامج التنمية في هذه الدول أدَّى إلى انخفاض متوسِّط دخل الفرد وارتفاع مستويات الفقر، ممَّا نتج عنه الإخفاقُ في تحقيق النموِّ الاقتصادي الشامل، وغيابُ الثقة في المؤسَّسات السياسية، وتأجيجُ الاحتجاجات الشعبية؛ لتندلعَ الإضراباتُ العامَّة والمظاهراتُ العنيفة في بعض الدول؛ كالأرجنتين وبوليفيا وتشيلي. ويستمرُّ الركود في الأرجنتين بعد إخفاق برنامج التكييف الاقتصادي الكلِّي المدعوم من صندوق النقد الدَّولي. ويشير تقرير التسلُّح ونزع السلاح والأمن الدَّولي لعام 2020م إلى أن الزياداتِ الضريبيةَ وتخفيضات المعاشات التقاعدية في كولومبيا ألهبَت الاحتجاجاتِ التي أُخمدَت بحملة قمع شديد من الشُّرطة الوطنية بمؤازرة جماعاتٍ مسلَّحة موالية للحكومة؛ ممَّا أدَّى إلى انكماش الاقتصاد في عام 2019م بنسبة %5.7.

وفي ظلِّ غياب القانون، واشتداد الصراع بين أعضاء المافيا، تنمو أنواعُ الفساد والأنشطةُ غير المشروعة. ووَفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدِّرات؛ فإن العصاباتِ هي المحركُ الرئيس لارتفاع معدَّلات جرائم القتل في أجزاءٍ مختلفة من أمريكا اللاتينية، وقد أشار التقريرُ الذي صدرَ عام 2019م أن أمريكا الوسطى سجَّلت أعلى معدَّل جرائم قتل عام 2017م بمعدَّل %62.1. وأدَّى ارتفاعُ تدفُّق الكوكايين في مناطقَ من البرازيل وهندوراس والمكسيك إلى ارتفاع معدَّلات جرائم القتل، ويُرجع التقرير ذلك إلى توافر الأسلحة النارية، وانتشار العصابات وجماعات الجريمة المنظَّمة. وفي كولومبيا انضمَّ بعضُ المقاتلين السابقين في الجماعات شبه العسكرية المنحلَّة إلى العصابات المتورِّطة في تهريب المخدِّرات والابتزاز، دون توجُّه سياسي واضح؛ ليؤثِّر كلُّ ذلك سلبًا في واقع المجتمعات المعيشية.

وتبدو مجمَلُ الأوضاع في الدول اللاتينية بيئةً مناسبة لمختلِف التنظيمات الإرهابية، ومع أنها ليست بيئةَ نشاط لتلك التنظيمات، فإنها تمثِّل إحدى البيئات الخِدْمية (اللوجستية) لها، حيث تزداد فرصُ تنظيمات الإرهاب في الاستفادة من البيئة السياسية والاجتماعية لتنمية مواردها، في ظلِّ نموِّ فرص المشاريع غير الشرعية بالتحالف مع العصابات المحلِّية. لذا كانت بعضُ تلك الدول ممرًّا لأعضاءٍ من تنظيم داعش متوجِّهين إلى الولايات المتحدة، عبر الطرق الآمنة لمافيا تهريب المخدِّرات والسلاح. وسبق أن قايضَت مجموعةُ فارك الإرهابيةُ الكولومبية الأسلحةَ بالمخدِّرات مع تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، إضافةً إلى التعاون بين داعش والقاعدة وعصابات «الماراس».

وقد صارت أنشطةُ تجارة المخدِّرات، وغسل الأموال في تلك المنطقة، وِجهةَ استثمار لتنظيمات أُخرى مثل حزب الله اللبناني الإرهابي، منذ الثمانينيَّات الميلادية، حين أبرمَ الحزبُ صفَقاتٍ بالتنسيق مع مهرِّبي المخدِّرات في كولومبيا وفنزويلا والمكسيك.

الارتباطات والتأثيرات

مع شدَّة البُعد الجغرافي، وغياب المشترَكات الجوهرية بين دول أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، يشير الواقعُ إلى ارتباطات وتأثيرات مختلفة بين الطرفين. يبدو ذلك جليًّا في أن كثيرًا من التنظيمات الإرهابية ترى في تلك الدول مركزًا ومُنطلقًا للخِدْمات المسانِدة (اللوجستية) لأنشطتها غير المشروعة، وقد حرَصَت كثيرٌ من التنظيمات الإرهابية المعولمة في الشرق الأوسط على أن يكون لها حضورٌ في تلك المنطقة، على الرغم من عُمق الاختلاف في بنية تلك الجماعات فكرةً ومشروعًا ومرجعية وبيئة سياسية.

وعلى العموم ترغب التنظيماتُ الإرهابية (المعولمة خاصَّةً، والمحلِّية أحيانًا) في مساحاتِ تمدُّدٍ خارجَ دوائر حُضورها التقليدية، في دول أُخرى بعيدة؛ بهدف الإيحاء باتِّساع مساحة الانتشار الحقيقية، وإعلاء فكرة الترابط الوثيق لدى عموم مؤيِّديها الحقيقيين في الواقع والمحتمَلين افتراضيًّا، إضافةً إلى كونها متنفَّسًا خارجيًّا يُفيد حالَ حصول ضغط داخلي على التنظيم، ويمكِّنه من حماية مقاتليه وأتباعه بإعادة توجيههم إلى أماكنَ جديدة. وإن توافر مناطقِ انتشار للتنظيمات في دول شتَّى، يجعلها ممرَّاتٍ ومراكزَ آنيَّة تقدِّم خِدْمات داعمة للمقاتلين المارِّين عبر تلك الدول.

وهنا نشير إلى عواملَ تساعد على جذب التنظيمات الإرهابية إلى دول أو مناطقَ ما، منها على سبيل المثال: التقاربُ في المواقف السياسية بين التنظيمات وتلك الدول؛ كالعَداء لأمريكا وإسرائيل. أو استغلالُ التنظيمات لضعف تلك الدول، واستثمار أزَماتها؛ وسيلةً للبقاء والتمدُّد والاستثمار، وتحقيق مصلحة أعلى وهي الرغبة المستمرَّة في تجاوز الضغوط الدَّولية الساعية إلى حظرها؛ بصفتها كِيانات متطرفة وإرهابية، إضافة إلى نموِّ الأنشطة غير المشروعة محلِّيًّا كالاتِّجار بالمخدِّرات والأسلحة، وغيرها من صور الفساد.

لذا تبدو الأوضاعُ في الدول اللاتينية مناسبةً لمختلِف التنظيمات الإرهابية، فمع أنها ليست بيئةَ نشاط رئيس لتلك التنظيمات، باتت إحدى البيئات الداعمة لها، حيث تزداد فرصُ التنظيمات الإرهابية في الاستفادة من البيئة السياسية والاجتماعية هناك لتنمية مواردها المالية، ولتنمية مشاريعها غير الشرعية، وذلك بالتحالف مع العصابات المحلِّية.

ضرورة التصدِّي

من المهمِّ جدًّا إحكامُ أواصِر التعاون الدَّولي في سبيل مكافحة مختلِف أنماط التنظيمات الإرهابية، مكافحةً جادَّةً وفاعلة، وذلك بإنشاء لجانٍ إقليمية متخصِّصة بالإرهاب على اختلاف قِطاعاته، تستظلُّ بالجهات الدَّولية المعنية بالإرهاب، وتستند إلى بحث نشاط الإرهاب وجماعاته المحلِّية في نطاق جغرافي محدَّد وتحليله، مع تفكيك شبكات دعمه وعوامل تغذيته، وَفقَ مجموعة ضوابطَ مُحدَّدة يجري تطبيقُها على جميع القِطاعات الجغرافية، للوصول إلى توصياتٍ عملية على دراية بواقع تلك التنظيمات، لتمكين المجتمع الدَّولي من تفكيك تلك التنظيمات، وقطع أواصِر التعاون فيما بينها.

وفي هذا الجانب نرى أن هناك عِدّةَ مسارات مقترحة لرفع كفاءة الجهود المبذولة في التصدِّي لهذه الجماعات، ومنها:

  • الاهتمامُ الدَّوري والمستمرُّ بمراجعة أُطُر سياسات مكافحة الإرهاب، وتطويرها وتحديثها، والارتقاءُ بالبرامج القائمة، وإعادة إنتاج سياسات أكثر قدرةً وكفاءة في التعامل مع الأسباب المركَّبة التي تُفضي إلى التطرف والعنف، وتغذِّي التنظيمات الإرهابية.
  • التوافقُ الدَّولي على ضوابطَ عامَّة يُلتزَم بها، ويُحتكَم إليها، في وضع كِيانات إرهابية في القوائم السُّود؛ تجنُّبًا لوقوع أيِّ تباين في وجهات النظر بين دولة وأُخرى، تتَّخذه المنظماتُ مُتنفَّسًا وورقةً رابحة في مناوراتها.
  • مراجعةُ الأساليب والوسائل القائمة وتحديثُها، في مجال مواجهة حركة الأموال غير المشروعة المتداوَلة عبر الدول؛ لتجفيف مصادر التمويل لمختلِف التنظيمات الإرهابية.
  • تحديدُ المناطق الحاضنة للإرهاب، والوقوف على حقيقة أزَماتها؛ لتوجيه الجهود الدَّولية إلى تحقيق الاستقرار السياسي فيها وتنميتها، ولا سيَّما الدول الأكثر تضرُّرًا واستهدافًا من التنظيمات الإرهابية.