فرضَت عودةُ الجماعات الإرهابية إلى منطقة موبتي في دولة مالي سنة 2015م على السكَّان نظامَ حكم غير مألوف لديهم، كان له آثارٌ سلبية عميقة أدَّت إلى معاناتهم طويلًا. وتشهد المنطقةُ واقعًا أمنيًّا معقَّدًا بسبب استغلال الجماعات الإرهابية المتطرفة لضعف الحضور الحكومي في المنطقة، وتعزيز انتشارها مما أدى إلى نشوء جماعات مسلَّحة هدفها الدفاعُ عن النفس، وضمانُ أمن مناطقها، فأسهمت هذه الأسبابُ مجتمعةً في تأجيج الصراع ذي الطبيعة المجتمعية في أجزاء مختلفة من البلاد، ولا سيَّما منطقةِ الوسط. 

الإرهاب الانفصالي
 تُعدُّ كتيبة تحرير ماسينا أبرز الحركات الانفصالية في مالي، ويستند البناء الهرمي فيها إلى تراتبية محددة، ففي كلِّ منطقة يمثِّل الكتيبةَ رئيسُ المركز، ويكون بمنزلة نائب الحاكم المخوَّل بالقيادة العامَّة في منطقته الجغرافية، فاتخاذُ جميع القرارات المهمَّة مَنوطٌ به، وجميع الملفَّات المتعلِّقة بشؤون البلدة تُعتمَد منه، وله الكلمةُ الأخيرة في القضاء والمحاكمات، وهو الذي يعيِّن المكلَّفَ بجبي الزكاة، ويرفع التقاريرَ إلى أمادو كوفا القائدِ الأعلى لكتيبة ماسينا، وفي كل مركز رئيسُ أركانٍ يتولَّى رعاية المقاتلين، وشرطةٌ إسلامية تراقب التطبيقَ الصحيح للشريعة، ولجنةٌ ثنائية أو ثلاثية مسؤولة عن تغذية جميع الموظفين، ويؤثِّر هذا الجهازُ الإداري والتنظيمي في حياة السكَّان تأثيرًا كبيرًا.

وقد طوَّرت كتيبةُ ماسينا سنة 2017م خطةً للتوسُّع والسيطرة الإقليمية على المناطق، ولا سيَّما المناطقِ التي يصعُب الوصول إليها، وهي المناطقُ التي غمرتها مياهُ الفيضانات في الدلتا. وتسير الكتيبةُ في تحقيق أهدافها على نهج إجرامي في تنفيذ أحكام الإعدام على المخالفين، واختطاف مسؤولي الدولة والوجهاء ورجال الدِّين وأيِّ مشتبَه به في التعاون مع سُلطات مالي؛ بتقديم معلومات أو تسريب أخبار.

ومنذ سنة 2018م تحوَّلت الاضطراباتُ الناجمة عن التطرف العنيف إلى صراعات بين المكوِّنات المجتمعية، لتشملَ القتل والإعدام الفوريَّ والعنف الجنسيَّ وتدمير القرى. وانتهج كثيرٌ من الجماعات المسلَّحة المتطرفة نهج كتيبة ماسينا، فأخذت في التوسُّع بالاستيلاء على الأراضي لزيادة نفوذها وسيطرتها، ومحاولة اكتساب ثقة السكَّان في ظل ضعف حضور الدولة ومؤسساتها، لتشجعهم على الالتحاق بها والانتظام في صفوفها.

تردِّي الأوضاع
في ظل هذه الظروف الصعبة والمعقدة صُنِّفت مجتمعات محدَّدة على أنها منحازة للجماعات الإرهابية، ويرجع ذلك غالبًا لأسباب عِرقية كما حصل مع مجتمعات الفولاني، ولم تنجح حملات الاعتقال التي نفذتها القوات الحكومية في الحدِّ من ظاهرة التحاق فئات من الشعب بالجماعات الإرهابية، ممَّا زاد في تعقيد الأزمة الأمنية، إذ أصبحت العَلاقاتُ بين أطياف المجتمع مضطربةً وملتهبة، وباتت الثقةُ فيما بينها مفقودة تمامًا، فلا أحدَ يثقُ بالآخر على الرغم من تشابك مصالحهم وترابطها في الحياة اليومية.

وما بين أفعال الجماعات الإرهابية المسلَّحة وردود أفعال الحكومة والقوَّات المسلَّحة المالية يعاني عمومُ السكَّان، ويزداد الوضع سوءًا وتعقيدًا بازدياد حدَّة الأفعال وردود الأفعال من الطرفين. وللوقوف على حقيقة ما تردَّت إليه الأوضاعُ نستعرض حالتي «ديالوبي وتوجويري كومبي» اللتين خضعَتا للحظر من قِبَل المتطرفين سنة 2018م، وكان سببَ الإجراء التعسُّفي هذا احتمالُ تورُّط السكَّان بالتعاون مع الحكومة المالية والقوَّات المسلَّحة، والعمل في إيصال المعلومات والأخبار. 

وتعدُّ الأدغال مصدرَ عيش سكَّان هاتين المنطقتَين ذواتي الدخل الضعيف، حيث عانى هؤلاء السكَّان معاناةً شديدة، وكان للحظر والحصار أثرٌ سلبيٌّ على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى العيش المشترك في المنطقتين؛ لأن مجتمعات الفولاني كانت تحت ضغط شديد، ولم تجرؤ على قول كلمة واحدة، فالذين فرضوا الحصارَ عليهم من عِرق الفولاني أيضًا، مما زادَ في التباس الأمر وتعقيده.

آثار سلبية
إن الاضطرابَ والتجاذب في منطقة موبتي بين الجماعات المتطرفة ومجموعات الدفاع الذاتي أسفرَت عن ممارسات سيِّئة؛ كعمليات التفتيش غير النظامية، والترهيب للسكَّان، والاغتيالات المنظَّمة، وعمليات الاختطاف. وقد وهَنَت الروابطُ الاجتماعية، وصار المرء قبل أن ينطِقَ بكلمة يتفقَّد مَن حوله يَمْنةً ويَسْرةً ليتثبَّتَ ممن يسمعه خشيةَ أن يشيَ به. وكان المتطرفون قد حظروا الكثير من الأعياد العُرفية، ومنعوا العرَّاف من الإشراف على حفَلات الزِّفاف أو القيام بالتعميد، وأصبحت إدارةُ جميع شؤون السكَّان بيد المتطرفين وبأمرهم. وصار إذا حدث نزاع بين السكَّان في موبتي لا يجرؤون على رفع القضية إلى القضاة أو الشرطة؛ خوفًا من القتل على يد الإرهابيين.

وقد أثَّر التطرفُ العنيف في وسَط البلاد بشدَّة في تمزيق النسيج الاجتماعي، وأدَّى الواقعُ المضطرب والمعقَّد إلى توقُّف جميع التعاملات بين فئات المجتمع. فأغلقَت المدارسُ أبوابها، وتوقفت الأسواقُ الأسبوعية، مما أدَّى إلى هجرة داخلية للسكَّان، وارتفاع عدد المهاجرين يومًا بعد يوم. وانتشرت في المنطقة عملياتُ الاختطاف بدوافع القتل أو تصفية الحسابات أو لأسباب شخصية. وأصبح معظمُ السكَّان يخشَون العودة إلى ديارهم؛ خوفًا من إلقاء القبض عليهم أو تعرُّضهم للقتل، فالحوادثُ الأمنية لا تتوقف في المنطقة، والوضع يزداد خطرًا وتعقيدًا.

أما في هَضْبة «دوغون» فتجري عملياتُ المطاردة لكلِّ من ينتمي إلى شعب الفولاني، وأحيانًا قد لا يُسمَح للذين يعملون في المساعدات الإنسانية بالوصول إلى مناطقَ معيَّنة بسبب نسبهم، ولا سيما إن كانوا من الفولاني. وكذلك الأمرُ في منطقة الفيضانات، فالجماعاتُ المتطرفة التي تسيطر عليها ذاتُ حسٍّ أمني كبير، وتمنع دخولَ أيِّ غريب خشيةَ أن يكون عميلًا سريًّا مكلَّفًا بنقل المعلومات إلى القوات المسلَّحة المالية أو القوات الأجنبية. وتَعوقُ تلك الاحترازاتُ الأمنية وصولَ المساعدات الإنسانية، ولا تستطيع المنظماتُ غير الحكومية الوصولَ إلى كثير من المناطق لمساعدة السكَّان الذين يعيشون في أشدِّ حالات الفقر والعَوَز، ويعانون الجوعَ والبؤس والمرض.

وتتجلَّى الآثار السيِّئة للتطرف في دلتا النيجر الداخلية، وأظهرُ تلك الآثار تقييدُ نزوح السكَّان، وتصنيفُ مجتمع الفولاني، وعدم تمكُّن العاملين في المجال الإنساني من الوصول بحرِّية إلى التجمُّعات السكَّانية، وعمليات خطف المتطرفين المتكرِّرة للمسؤولين، وانتقال اليد العاملة المؤهَّلة إلى المناطق الحضرية.

 وإن أسوأ الآثار هو التحاقُ عدد كبير من الشباب بالجماعات المتطرفة، وما ذاك إلا لغياب الدولة الذي سمح للمتطرفين بالتوغُّل في الدلتا، فأغلقوا المدارسَ في جميع أنحاء الدلتا؛ بل إن معظم المدارس قد احترقت. وانضمَّ الشبابُ الذين لم يهاجروا إلى الجماعات الإرهابية، تلك الجماعاتِ التي تعادي كلَّ من ينتمي إلى الدولة عَداءً شديدًا، باستثناء العاملين الصحيين، وبعض رؤساء البلديات، وبعض المنظمات الإنسانية غير الحكومية. 

وتعادي الجماعات الإرهابية المعلِّمين، فجميعُهم مهدَّدون بالقتل، وبعضُهم قد خُطف؛ ففي سنة 2019م اختُطف معلِّمون في بلدة كورومبانا، واحترقت المدرسةُ الابتدائية في ديالوبي بعد الانتخابات التشريعية عام 2020م.

أما القرى الخاضعةُ للحظر فقد مُنع الناس فيها من حرث حقولهم، ومُنعت النساء والفتيات من إحضار الحطَب للطبخ، ولم يُسمَح للسكَّان أن يذهبوا إلى الأسواق في القرى المجاورة. وفرض المتطرفون ضرائبَ إجباريةً على جميع السكَّان باسم الزكاة، وجعلوها في جميع القِطاعات كالزراعة وتربية الحيَوانات والصيد.  

 لقد أسفرت ظاهرةُ التطرف العنيف عن تدهور الاقتصاد في وسَط مالي، وتوقُّف السياحة التي تعدُّ عنصرًا مهمًّا في هذه المنطقة الجغرافية، وفِقدان الدولة للسيطرة على جزء كبير من البلاد. ولا يزال الوضعُ الإنساني يدعو للقلق الشديد في جميع المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعات المسلَّحة الإرهابية؛ لأن السكَّان يعانون آثارًا تراكمية بسبب النقص في المحاصيل الزراعية، والأزَمات الأمنية التي تجعلهم أكثرَ عرضةً للخطر.