تسجيل الدخول
19/05/2022
​​تصدَّت بريطانيا منذ سبعينيَّات القرن العشرين لحركات عُنف مثَّلها تمرُّد الجيش الجمهوري الأيرلندي، فيما عُرف بعهد الاضطرابات. وانتهت هذه المرحلةُ باتفاق «بلفاست» أو «الجمعة العظيمة» في عام 1998م. وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001م، بدأت مرحلةٌ جديدة من مواجهة التطرف العنيف والإرهاب، طوَّرت فيها الحكوماتُ البريطانية خُططًا شتَّى لمواجهة التهديدات الإرهابية، عبَّرت عن نُضجها «إستراتيجيةُ مكافحة الإرهاب» التي أُعلنت في عام 2018م باسم «كونتست» CONTEST.

وقد جاء هذا الكتاب المهم: «التصدي للإرهاب في بريطانيا بعد 11 سبتمبر: تهديداتٌ واستجابات وتحدِّيات»؛ لعرض تفسير سياسة التصدي للإرهاب في بريطانيا وخُططها الإستراتيجية، وتقويمها وحوكمتها، وكونها أُقيمت على أربعة أركان تُعرف بـ «4P»، وهي: الاستعداد Prepare، والحماية Protect، والوقاية Prevent، والمتابعة Pursue. 

ومؤلفُ الكتاب هو ستيفن غرير Steven Greer أستاذُ حقوق الإنسان بكلِّية الحقوق في جامعة ريستول البريطانية، نشر عددًا من البحوث في بريطانيا وخارجها، ويعمل مستشارًا لعدد من الجهات المتخصِّصة. وتولَّت دار روتليدج «Routledge» نشرَ هذا الكتاب ضمنَ سلسلة دراساتها عن الإرهاب والقانون.

الموضوع والمحتوى
يبحث الكتابُ موضوع التكييف القانوني والسياسي لإستراتيجية التصدي للإرهاب في بريطانيا، والتحدِّيات التي تواجه تطبيقها. ويتكوَّن الكتابُ من سبعة فصول؛ يتناول الفصل الأول مفاهيمَ التصدي للإرهاب في بريطانيا واتجاهاتها. ويعالج الفصل الثاني العقيدة الفكرية للإرهاب. ويقدِّم الفصل الثالث شرحًا للمخاطر الإرهابية الثلاثة التـي تهدِّد بريطانيا؛ وهي: بقايا المنشقِّين عن الجيش الجمهوري، واليمين المتطرف، والأفرع المحلِّية للتنظيمات الإرهابية. أمَّا الفصولُ الرابع والخامس والسادس فتتناول التحدِّيات التي تواجه إستراتيجية «كونتست». ويورد الفصل السابع ملاحظاتٍ ختاميَّة تتصل بأبرز التهديدات والتحدِّيات أمام تطبيق سياسة التصدي للإرهاب البريطانية وتطويرها. 

مفاهيم واتجاهات 
يُظهر الفصلُ الأول أن الحركاتِ الإرهابيةَ مرتبطةٌ بالجماعات التي تستخدمُ العنفَ لتحقيق غايات سياسية خاصَّة، وتستهدفُ المدنيين وتروِّعهم في صراعها مع الدولة. وقد بُذلت محاولات لصياغة تعريفات دقيقة للإرهاب، لكن ليس لدينا اتفاقٌ على تعريف مُحدَّد حتى الآن، وكثيرًا ما يتداخل الإرهابُ مع صور العنف السياسي الأخرى، مثل: المقاومة العنيفة للطغيان، والاحتلال، وجرائم الكراهية، والاحتجاج العنيف، وأعمال الشغب التي قد تشهد استخدامَ أسلحةٍ وبنادقَ وقنابل.

ويمكن القول: إن أنماطَ العنف السياسي في العالم مرَّت بأربع موجات، هي: العنفُ الفوضوي، ثم الحركات المعادية للإمبريالية، والعنف المرتبط باليسار واليمين الجديد، والعنف الديني. وفي بريطانيا تطوَّر العُنف الإرهابي في مرحلتين؛ برزَت في المرحلة الأولى عملياتُ الجيش الجمهوري الأيرلندي فيما بين عامي 1970-2003م. ثم منذ عام 2003م برزَت الجماعاتُ المرتبطة بتنظيمَي القاعدة وداعش الإرهابيين، فضلًا عن الجماعات المحلِّية، والأخرى العابرة للحدود. 

ولا يقلُّ مصطلح «التصدي للإرهاب» غموضًا عن مصطلح «الإرهاب»؛ فإن غموضَه ناشئٌ عن غموض الآخر. ويعرِّف بعضُ المتخصِّصين التصدي للإرهاب بأنه «كلُّ عمل، رسمي أو غير رسمي، قانوني أو غير قانوني (شرعي أو غير شرعي)، يُقصَد به الردُّ أو التعامل مع الإرهاب المتوقَّع حدوثُه من أطراف أخرى». وبهذا قد يكون الإرهاب نفسُه ردًّا على إرهاب مُتصوَّر. على سبيل المثال: يؤكِّد الجيشُ الجمهوري الأيرلندي دائمًا أن كفاحه المسلَّح هو ردَّة فعل على الإرهاب المسلَّح للتاج البريطاني منذ القرن الثاني عشر أيام استعمار أيرلندا. 

ولعلَّ من الأمور المهمَّة في التصدي للإرهاب توفيرَ الأمن من ناحية، وضمانَ الحرية من ناحية أخرى. وفي هذا السياق غالبًا ما تبرزُ مقولة بنجامين فرانكلين: «إن الذين يقايضون الحريةَ الضرورية بالأمن المؤقَّت، ينتهي بهم المطافُ بخسارة الاثنين». ويُظهر الواقع أن مكافحة العنف لا تتأتَّى إلا بتقييد بعض الحريات، وهو ما يضعُ الأمن والحرية في المواجهة. ويميِّز قانون حقوق الإنسان البريطاني الصادر عام 1998م، وبقيَّة القوانين الدَّولية لحقوق الإنسان، بين حقوق الإنسان غير القابلة للانتقاص، والأخرى التي يمكن انتقاصُها. لكن بحسَب المادَّة 15 من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان؛ فإن مُعظم حقوق الإنسان غيرُ قابلة للانتقاص؛ فهي تنصُّ على حقِّ الإنسان في ألا يتعرَّضَ للتعذيب، وألا يُحَطَّ من كرامته؛ كأن يتعرَّض للاستعباد والعمل الإجباري، أو أن يقعَ عليه حُكم قضائي فوق ما يستحقُّ، أو أن يُقتلَ دون حُكم قانوي بالإعدام. وبخلاف ذلك، فإن بعضَ حقوق الإنسان الأخرى قد تتعرَّض للانتقاص؛ كالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في إطار الحفاظ على الأمن القومي. 

وبعيدًا عن العَلاقة الجدلية بين الأمن والحرية، كان على الحكومات البريطانية المتعاقبة، كغيرها من الحكومات الديمقراطية، في تنفيذها لسياسات التصدي للإرهاب وقوانينها، أن تجدَ الخطَّ الفاصل بين «المنع» و«التجريم» و«العقاب» من ناحية، وبناء شراكة بين الدولة والمجتمع للتعامل مع المظالم الاجتماعية، والتعامل مع العقائد التي قد تنطوي على عنف، من ناحية أخرى. أي الموازنة بين مخاطر تطبيق أهداف سياسة التصدي للإرهاب، ولا سيَّما جانب «المنع»، وبناء «مقاومة» اجتماعية في مواجهة العنف والإرهاب، أي تأكيد جانب «الإعداد». وقد عملت الحكوماتُ البريطانية على تقليل الأضرار الناجمة عن الهجَمات الإرهابية؛ بإنقاذ حياة المواطنين، وتقديم المساعدات الضرورية، لكنَّ جوانب بناء «المقاومة الاجتماعية» ما زالت في طور النشوء. 

وكان لاتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وَفقًا لاستفتاء يونيو 2016م، الذي نُفِّذ رسميًّا في ديسمبر 2020م، أثرٌ في صَوغ سياسات التصدي للإرهاب في بريطانيا منذ ذلك الحين. وقد حُدِّدت عَلاقاتُ المملكة المتحدة في التصدي للإرهاب بالاتحاد الأوروبي، في جانبين؛ أولهما: أن بريطانيا كانت طرفًا في قوانين الاتحاد الأوروبي وسياساته ونظامه البيروقراطي المتعلِّق بمكافحة الإرهاب. وثانيهما: أنها طرف في الشراكات الأوروبية المتعلِّقة بتبادل الاستخبارات مع دول الاتحاد. وعمَد الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا في أعقاب أحداث سبتمبر إلى تطوير سياسة التصدي للإرهاب عابرة للحدود. وكان «مجلس أوروبا» سبَّاقًا في هذا الصَّدد منذ 1977م، عندما صاغَ الاتفاقية الأوروبية لمكافحة الإرهاب. 

ومع أن سياسات التصدي للإرهاب كانت متقاربةً عند توقيع اتفاقية ماستريخت عام 1992م، فإن إسهام الاتحاد الأوروبي كان هامشيًّا في تحديد السياسات الوطنية الداخلية، مما يعني عدمَ تأثُّر السياسات البريطانية في مكافحة الإرهاب بعد «البريكست»؛ لأنها ما زالت عضوًا في ترتيبات عقابية وقانونية أوروبية مثل: نُظُم مذكِّرات التوقيف المشتركة. لكنَّ مصدر القلق الحالي بعد «البريكست» هو «أيرلندا» التي جرى الاتفاقُ على وضعها النهائي في اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998م، ولا تزال الحدودُ بين جمهورية أيرلندا وشمال أيرلندا شبهَ غائبة، ممَّا يتطلَّب ضبط الحدود.

خطر التطرُّف عالميًّا 
ويبيِّن الفصلُ الثاني أنه مع استمرار العنف في بريطانيا، كان للحركات اليسارية واليمينية أهدافٌ وطنية، وعلى الرغم من الدعم الدَّولي الذي تلقَّاه الجيشُ الجمهوري الأيرلندي من تنظيماتٍ مسلَّحة ونظُم حاكمة، مثل: نظام الرئيس القذَّافي في ليبيا، وقِطاعات الأمريكيين الأيرلنديين، لم يكن لخطره آفاقٌ دَولية؛ إذ كانت أهدافه انفصاليةً محضة، ممَّا يجعل خطره مختلفًا تمامًا عن خطر جماعات «التطرف العالمي» التي تؤثِّر في «هلال الفوضى» الممتدِّ من شمال إفريقيا إلى حدود الهند والصين. ويحاول الكاتب تقصِّيَ أصول ظاهرة التطرف العالمية وظهور الحركات القتالية المتطرفة. 

ملامح الإرهاب المحلِّي 
يبحث الفصلُ الثالث في ملامح المخاطر الإرهابية التـي تهدِّد المجتمع البريطاني، وهي: الجيشُ الجمهوري المعارض، واليمين المتطرف، والحركات المتطرفة. ويوازن بين هذه الحركات، مستعرضًا تطوُّرها، وأفكارها، وطرق عملها. وقبل الخوض في هذه الموازنة يشير المؤلِّفُ إلى أن بريطانيا ما زالت تواجه أنماطًا من عُنف بعض الحركات القومية المتطرفة، مثل: المتطرفين من إقليم ويلز، الذين يعتدون على ممتلكات «الإنجليز»، والحركات اليسارية المتطرفة التي يقودُها «الفوضويون» و«أنصار البيئة وحقوق الحيوانات» و«المعادون للعولمة». لكنَّ كثيرًا من أتباع هذه الحركات والمجموعات لا يتبنَّون العنف المنظَّم، وممارساتهم العنيفة محدودة النطاق والمستوى، وكثيرًا ما يكون اليسار المتطرف مصطلحًا لحركات متفرقة، لا تجمعها سوى شعارات شيوعية عتيقة، مثل: معاداة الانقسام الطبقي، والخلاص الإنساني العالمي، وهو ما يجعلها لا تمثِّل خطرًا داهمًا مثل تيارات العنف الثلاثة. 

إرهاب الجيش الجمهوري 
يشار إلى الجمهوريين الأيرلنديين بالمعارضين أو المنشقِّين؛ بسبب معارضتهم لاتفاق «الجمعة العظيمة» أو اتفاق «بلفاست» عام 1998م، الذي أوقفَ نشاط تنظيم الجيش الجمهوري الأيرلندي، ودمَج ذراعه السياسـية «الشين فين» في الحياة السياسية البريطانية. ويعبِّر عن هذه الحركة مجموعاتٌ صغيرة، مثل: الجيش الجمهوري الأيرلندي الحقيقي، وجيش التحرير الأيرلندي.

وتعود جذورُ المنشقِّين الأيرلنديين إلى سياسات التاج البريطاني الذي ضمَّ إليه أيرلندا بالقوة؛ ممَّا أدَّى إلى انقسام طائفي في الشَّمال بين الكاثوليك الأيرلنديين والبروتستانت من الإنجليز والأسكتلنديين والأيرلنديين. وشهدت الحربُ العالمية الأولى وما تلاها، انقسامًا سياسـيًّا بين المؤيِّدين للبقاء تحت التاج البريطاني والوطنيين المؤيِّدين للانفصال. وأفضَت المصادماتُ بينهم إلى اتفاق 1922م، الذي نشأ عنه جمهوريةُ أيرلندا الجنوبية، وأبقى أيرلندا الشَّمالية (أولستر) تحت التاج البريطاني، وأصبح الكاثوليك أقلِّية تحت سيطرة الأغلبية البروتستانتية. وحاولت الجماعاتُ الناشطة في الطبقة الوسطى الكاثوليكية أن تُنظِّم نفسها فيما يشبه «حركة الحقوق المدنية» الأمريكية في الستينيات، لكنَّ مطالبها قُوبلت بعُنف منظَّم من قوات الجيش والشرطة، وانتشرت جماعات شبه عسكرية من البروتستانت الموالين، ممَّا أدَّى إلى ظهور الجيش الجمهوري الأيرلندي في عام 1969م، الذي انتشرت عملياته في أيرلندا وبريطانيا في عهد الاضطرابات، وانتهت بتوقيع اتفاق «الجمعة العظيمة». 

ويقوم فكرُ هذه الجماعات وخطابها المعارض لاتفاق «الجمعة العظيمة» على رفض أيِّ سلام دائم في المقاطعات الستِّ المكوِّنة لشَمال أيرلندا؛ ما لم ينتهِ الحكمُ البريطاني كاملًا في الجزيرة، ويحلُّ محلَّه جمهورية أيرلندية موحَّدة. وهذه الجماعاتُ تعترف بتراجع السياسات التمييزية تجاه الكاثوليك الأيرلنديين، لكنَّها ترفض اتفاقَ «بلفاست»؛ لأنه يعزِّز الانقسام، ويَعُوق تأسيس الجمهورية.  

وفي عهد الاضطرابات كان الانضمامُ إلى الجيش الجمهوري الأيرلندي مرتبطًا بالولاء للجماعة، ويتطلَّب درجةً عالية من الالتزام وضبط النفس، مع وجود هامش من المناورة لدى الجناح السياسـي للتنظيم المتمثِّل في «الشين فين»؛ لذا كان الأعضاءُ الأفراد «الذئاب المنفردة» ظاهرةً نادرة. ونجح التنظيمُ في اكتساب تأييد شعبي بأساليبَ مختلفة، منها: الإضراب عن الطعام في السُّجون البريطانية، لكنَّ لجوء الجيش الجمهوري للعنف كان منظَّمًا ومستمرًّا يوميًّا. وبعد توقيع اتفاق «بلفاست» استمرَّت الجماعاتُ المنشقَّة في تبنِّـي الأساليب الهجومية، وكان أشرسُ هجوم قام به تنظيمُ الجيش الجمهوري الأيرلندي في أغسطس عام 1998م، أودى بحياة عشَرات المدنيين. وفي عام 2007م صنَّفت الحكومةُ البريطانية هذه الجماعات بأنها «شديدة الخطر» ومع ذلك استمرَّت في ممارسة العنف، ممَّا أفضى إلى انحسار دعمها.

إرهاب اليمين المتطرف 
سبَّب عنفُ الجماعات اليمينية المتطرفة سقوطَ عشرات الضحايا في بريطانيا، ومع أن حجم العمليات وعدد المنضمِّين إلى هذه التنظيمات كان محدودًا، فإنها ما زالت خطرًا كبيرًا؛ بسبب الحوادث الكارثية التي ارتكبتها جماعاتٌ وأفراد من اليمين المتطرف في بلدان أخرى، مثل: مذبحة «كريست تشرش» في نيوزيلاندا في مارس 2019م، التي راح ضحيَّتها نحو 50 مسلمًا في المسجد، ويُعَدُّ هذا الحادثُ الأكثرَ دموية في تاريخ نيوزيلندا الحديث. 

وهذه الحركات تاريخيًّا هي امتدادٌ للحركات اليمينية المتطرفة، أو النازية الجديدة، أو الفاشية الجديدة في أوروبا والغرب عمومًا. وترى أنها ردَّةُ فعل لأحداث 11 سبتمبر، والدفاع عن الحضارة الغربية في مواجهة الخطر الوجودي. وتتضمن لائحة الخصوم أيضًا، النخب الليبرالية، واليسار السياسي، ودعاة التعددية الثقافية. وعلى خلاف الحركات السياسية الشعبية، تميل الحركاتُ اليمينية المتطرفة إلى رفض المؤسسات العامَّة والتشكيك فيها؛ لذا أخفقت حركاتُ اليمين المتطرف في أن تنالَ الاعتراف السياسـي والديمقراطي، وغالبًا ما يُتَّهم أعضاؤها بممارسة جرائم العنف والكراهية. 

وتمثِّل جماعاتٌ مثل «بريطانيا أولًا» و«رابطة الدفاع الإنجليزية» هذا التيار الذي يقوم خطابه على رُهاب الإسلام «الإسلاموفوبيا»، ومعاداة المهاجرين، والتعدُّدية الثقافية، ومعاداة السامية ومَن شابههم. وتختلفُ هذه المنظمات فيما بينها في بعض القضايا؛ فمثلًا: تؤكِّد رابطة الدفاع الإنجليزية خطابها العَلماني، فيما تستدعي «بريطانيا أولًا» المسيحية للمجتمع البريطاني. وبحسَب بعض المراقبين فإن الحركاتِ الجديدةَ في بريطانيا، أصبحت أكثرَ انشقاقًا وتفرُّقًا وعنفًا في العقدَين الماضيين، وتشهد زيادةً في نشاط «الذئاب المنفردة» الذين تحوَّلوا ذاتيًّا إلى التطرف، ونفَّذوا عمليات إرهابية منفردين، ومن أبرز هؤلاء: «توماس ماير» الذي اغتالَ عضو البرلمان العمَّالي «جو كوكس» في 2016م، و«دارين أوسبورن» الذي استخدم شاحنةً لدعس مصلِّين في «فينسباري بارك» في يونيو 2017م. وأثرُ وسائل التواصل الاجتماعي واضح في تجنيد هؤلاء، والدفع بهم في عمليات مدمِّرة.

إرهاب الجماعات المتطرفة
يرى المؤلِّفُ إمكانية تتبُّع جذور الجماعات الإرهابية في بريطانيا، في عددٍ من المجالات السياسية والاجتماعية المركَّبة، أهمُّها: 
  • الهجرة: بسطَت الجالياتُ الباكستانية والهندية والبنغلاديشية حضورَها على الهجرة الإسلامية إلى بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بدأ التنوُّع يغلب على الجالية الإسلامية هناك منذ سبعينيَّات القرن الماضي مع ازدياد الهجرة العربية والإفريقية. ومن الملاحَظ أن نسبة المهاجرين المسلمين إلى بريطانيا بعد 2011م لم تتجاوز %10. 
  • الانقسامات السكانية: تبلغ نسبةُ المسلمين حاليًّا %5 من إجماليِّ سكَّان بريطانيا. وتتَّسمُ الجالية الإسلامية بالتنوُّع العِرقي والمذهبي. ونظرًا للثقل الكبير لمسلمي جنوبيِّ الهند ضمن الجالية، تسيطر الطُرق الديبوندية والبريلوية والصُّوفية على التوجُّهات المذهبية لغالبية مسلمي بريطانيا، مع وجود ضئيل لأهل الحديث.
  • التهميش المادي: تُظهر إحصاءات عام 2014م أن %50 من مسلمي بريطانيا فقراء، مقارنة بـ %27 من السِّيخ، و%22 من الهندوس و%19 من الكاثوليك البريطانيين. وترجع زيادةُ معدَّلات فقر المسلمين إلى عوامل، مثل: ضعف التأهيل لسوق العمل، وانخفاض الدخل، وكثرة الأطفال غير المنتجين.
  • العنصرية والإسلاموفوبيا: تشير الإسلاموفوبيا إلى العَداء غير العقلاني تجاه الإسلام والمسلمين. وهناك حالاتٌ كثيرة تؤكِّد التحيُّز تجاههم، تتراوح بين السخريَّة والإهانات، وصولًا إلى القتل. وهناك أيضًا التمييز العنصري على أساس العِرق؛ فإن نسبة غير البيض تبلغ %92 من المسلمين، ولا سيَّما مسلمي أيرلندا وويلز.  
وتُبرز مظالمُ الجماعات المتطرفة في بريطانيا خطاب العنف، ويمكن تعقُّب بداياتها مع ظهور عدد من الجمعيات الدينية الإسلامية المتطرفة، منذ حادثة «سلمان رشدي» في الثمانينيات التي يقوم خطابها على التفسيرات والتأويلات الخاطئة للكتاب والسنَّة. وقد دعت بعضُ هذه الجمعيات الشبابَ من مسلمي بريطانيا إلى تجنُّب الخدمة في الجيش؛ لأنها مشاركةٌ في الحرب على المسلمين في مناطقَ أخرى من العالم. 

ويتجلَّى هذا الخطاب بوضوح في الشهادات المسجَّلة قبل تنفيذ بعض العمليات الانتحارية، مثل: شهادة «محمد صدِّيق خان» منفِّذ هجوم 7 يوليو بلندن عام 2005م، التي أشار فيها إلى أنه جنديٌّ في حرب لا تنتهي مع القوى المعادية للمسلمين. ويظهر في شهادة «نيك رايلي» صاحبِ محاولة تفجير مطعم بمدينة إكستر في مايو 2008م تأكيدُ «عقيدة الموت» و«الفداء» و«التضحية بالدماء». ويشير خطابُ هذه الحركات إلى جرائم بريطانيا تجاه المسلمين في «أرض الإسلام» في الحِقبة الاستعمارية.

وفي الثمانينيات والتسعينيات، حكم عهد الأمان العَلاقة بين بريطانيا والجماعات الإسلامية، التـي تتَّخذُها قاعدة للهجوم على مواقعَ أخرى ولا سيَّما العالم الإسلامي. وكان لحادثة «سلمان رشدي» أثرٌ كبير في حشد الجماعات داخل بريطانيا وتوحيدها، وعلى رأسها «حزب التحرير الإسلامي» و«البرلمان الإسلامي» و«جمعية الإحياء»، فضلًا عن النشاط في الجانب الدَّعوي الخاصِّ بهم، ممَّا دفع بعضَ أعضاء هذه التنظيمات إلى الانخراط في ممارسة أنشطتهم خارجَ بريطانيا.

وفتحت أحداثُ 11 سبتمبر وما أعقبَها من حرب الولايات المتحدة بالتحالف مع بريطانيا على تنظيم القاعدة وحلفائها، ساحةَ الحرب داخل بريطانيا، وأخذت هذه الجماعاتُ في تجنيد المسلمين البريطانيين، سواءٌ أبناءُ المهاجرين أو الراغبون في المشاركة، وأغلبهم شباب دون الثلاثين. ووَفقًا للجهات الأمنية البريطانية فإن نحو 23 ألف مسلم بريطاني تحت مجهر الرقابة الأمنية، فيما يُشتبَه أن يكون بينهم 7 آلاف فقط لهم أنشطةٌ ضمن هذه الحركات، منهم 500 شخص تُشدَّد عليهم الرقابة الأمنية. ويقوم الدعاةُ المتشدِّدون في بريطانيا بمهمَّة التجنيد، منهم: «أبو حمزة المصري»، و«أبو قَتادة»، و«زكريا موسوي»، و«أنجم تشودري» الذي اعتُقل وحُكمَ عليه بالسَّجن مدَّة 5 سنوات، بتهمة خرق قوانين مكافحة الإرهاب البريطانية، ودعمه تنظيم داعش الإرهابي. علمًا أن الكثير من هؤلاء تلقَّوا الرعاية والدعم المالي من الحكومة البريطانية سابقًا بوصفهم مواطنين. وتؤكِّد بعضُ البحوث أن كثيرًا من المجنَّدين في الخلايا المتشدِّدة في بريطانيا يشعرون بالتهميش، ولديهم أزمة في الهُويَّة والانتماء. 

وليس هناك أدلَّة على أن المتشدِّدين البريطانيين يتلقَّون تدريبًا داخل بريطانيا؛ بل يسعى أغلبُهم إلى الهجرة، والالتحاق بمعسكرات التنظيمات المتطرفة في الخارج، وهو ما حدث مع اجتذاب تنظيم داعش الإرهابي لكثير منهم إلى سوريا والعراق، أو إلى بلدان أخرى كباكستان، ثم بعد إتمام التدريب، يعود هؤلاء إلى بريطانيا ليصبحوا قنابلَ موقوتة وخطرًا داهمًا.

الإعداد والحماية 
يستعرض المؤلِّفُ في الفصل الرابع عُنصرَي «الحماية والإعداد» في سياسة التصدي للإرهاب البريطانية CONTEST. ويهدِفُ عنصر الحماية إلى تعزيز الأمن العام، وحماية المصالح البريطانية في الداخل والخارج، وهو يتضمَّن الحفاظَ على أمن الحدود ونُظم المواصلات، والبنية التحتية الحيوية، والتحكُّم في الموادِّ والمعارف والمعلومات التي قد تُستخدَم لتحقيق أغراض إرهابية. وتجلَّت هذه الحمايةُ في عدد من الإجراءات، من أهمِّها:

  • أمن الحدود والطيران: تراقب السُّلطات البريطانية، ولا سيَّما مكتب أمن الحدود بوِزارة الداخلية، أمنَ الحدود الأرضية، والمطارات التـي أصبحت مصدرَ اهتمام بعد أحداث 11 سبتمبر. وتُشارك بريطانيا معلومات المسافرين، ومنها البصَمات الحيوية، مع الشركاء الموثوق فيهم، والجهات الدَّولية، ونظام معلومات «الشينجن»، والشرطة الأوروبية، والإنتربول. وتؤكِّد بريطانيا أن نظام تبادُل معلومات الطيران مستمرٌّ بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. لكنَّ إجراءاتِ التأمين التـي أصبحت مشدَّدة جدًّا تثير تساؤلات بشأن بعض القضايا، مثل «خصوصية أجساد المسافرين»، وهو ما ورد في تقرير لجنة الشؤون الخارجية عام 2010م، وما دفع قسمَ السفر بوِزارة الداخلية لإطلاق مشروع «حلول تأمين السفر المستقبلية» عام 2016م، بتكلِفة 25.5 مليون جنيه إسترليني، ويتضمَّن المشروع بحثَ تطوير تقنيَّات تصوير الكم، وخُوارِزميَّات التعلُّم الآلي؛ للموازنة بين كفاءة الحماية والتأمين والخصوصية الشخصية. ودفعت أزمةُ الطائرات المسيَّرة في عامي 2018-2019م مطارَي «جاتويك وهيثرو» إلى استخدام تقنيات عسكرية في عمليات التأمين، ورفعت جاهزية القوات الجوِّية لدَرء الهجوم بالمسيَّرات.  
  • ملاحقة الإرهابيين وحجزهم: تسمح المادَّة السابعة من تعديل قانون الإرهاب البريطاني لعام 2000م للضبَّاط المختصِّين بإيقاف أيِّ شخص يمرُّ بالموانئ والمطارات والسِّكك الحديدية والمناطق الحدودية بين جمهورية أيرلندا، وأيرلندا الشَّمالية، واستجوابه. ويسمح هذا التعديلُ للسُّلطات بالتفتيش والبحث عن المعلومات، ويعدُّ عدم التعاون فيه مخالفة قانونية. وتضمَّن تطبيقُ التعديل ضوابطَ أخرى ذُكرت في قوانينَ لاحقة، تؤكِّد ضرورةَ عدم تطبيق التفتيش على أساس عِرقي أو ديني. وتكشف الإحصاءاتُ أن التعديل السابع نادرًا ما استُخدم، ومع ذلك لم يخلُ الأمر من جدل قانوني؛ فقد رفضت المحكمةُ الأوروبية لحقوق الإنسان عدم تعديل «التعديل السابع» لعدم تضمينه ضوابطَ تمنعه من سوء الاستغلال، إلا أن المحكمة البريطانية العُليا قضت بالموافقة على التعديل، وأقرَّت جدواه في حماية الأمن القومي.
  • الهجرة واللجوء: أدَّت أحداث سبتمبر إلى إعادة النظر في سياسات الهجرة واللجوء، التي وُصفَت بأنها متساهلة، ولا سيَّما في مرحلة ما قبل «البريكست». وقد نصَّ الجزء رقم 54 من قانون الهجرة واللجوء والجنسية لعام 2006م على إمكانية رفض طلبات الهجرة واللجوء من الأشخاص المشتبَه في ارتكابهم أعمالًا إرهابية، أو الإعداد لها، أو التحريض عليها، وهو ما يتوافق مع معاهدة الأمم المتحدة للاجئين لعام 1951م؛ إذ نصَّت الفِقرة 32 من المادَّة الأخيرة، على إمكانية ترحيل الأشخاص الذين قد يصبحون خطرًا على أمن الدولة المضيفة. وتبقى المشكلة في أن تحديدَ الخطر أو التهديد يعتمدُ على تقديرات الأجهزة المعنيَّة، للأسباب الوقائية الاستباقية، مما يؤدِّي إلى بعض الاختلافات في تلك التصوُّرات. وتتضمَّن بعضُ الأمثلة فحصَ تاريخ الأشخاص المعنيين، وإصدار قرارات قضائية برفض طلب الدخول. ويذهب بعضُ القانونيين إلى أن إعادة اللاجئين وطالبي اللجوء قَسرًا إلى بلدانهم يخالف قوانين الهجرة الدَّولية، التي تُحرِّمُ إعادة اللاجئين في حال وجود خطر يهدِّد حياتهم، أو تعرُّضهم للاضطهاد، ممَّا جعل السُّلطات أمام خيارين؛ إمَّا وضعُ الأشخاص المشتبَه فيهم تحت الإقامة الجبرية، أو ترحيلُهم إلى بلد يكونون فيه غيرَ مُضطَهدين، وأكثر أمانًا.
  • السيطرة على المواد الخطِرة: تسعى وِزارةُ الداخلية البريطانية إلى منع الاستخدام غير القانوني للموادِّ الخطرة، مثل: البنادق، والمتفجِّرات، والسُّموم، والموادِّ المشعَّة والكيماوية والبيولوجية والنووية، مما يعني فرضَ رقابة شديدة على بيع هذه الموادِّ، أو شرائها وتخزينها. وتعدُّ بريطانيا من أكثر دول العالم صرامةً في تقييد حيازة الأسلحة الشخصية والمتفجِّرات، منذ إصدار قانون الأسلحة النارية في عام 1968م. وقد شُدِّدت الرَّقابة على الحدود؛ مخافةَ تهريب الأسلحة غير الشرعية. ونظَّم قانونُ تصنيع الموادِّ المتفجِّرة وتخزينها عملياتِ الترخيص اللازمة لاستخدام هذه الموادِّ لأغراض محدَّدة. أمَّا إنتاجُ الموادِّ النووية والمشعَّة وتخزينها؛ فيخضعُ للترتيبات الدَّولية التي تتفق معها بريطانيا. ويشير مكوِّن الاستعداد في سياسة التصدي للإرهاب إلى أهمية حماية الأرواح، وتخفيف الأضرار، وتقديم المساعدات العاجلة في حال وقوع هجوم إرهابي، مع ضرورة وجود ردود فعل قوية ومُجدية، والتنسيق بين الأجهزة المعنيَّة؛ لتقليل آثار الهجوم على المجتمعات المحلِّية إلى الحدِّ الأدنى. واتُّهمَت الأجهزة البريطانية بالتقصير في هذا الجانب، بعد وقوع عددٍ من الهجَمات، كهجوم «ساحة مانشستر» في مايو 2017م، ممَّا دفع السُّلطات إلى إطلاق حمَلات مُنظَّمة للتوعية بأهمية «الاستعداد» في عدد من الأوساط.
  • ضمان الاستعدادات: تتحقَّق تلك الاستعداداتُ ببناء أجهزة الطوارئ المدنية وصيانتها، والاستعدادات المتخصِّصة للتعامل مع الهجَمات الكمياوية والبيولوجية والإشعاعية والنووية. وتُسنَد هذه الجوانب إلى هيئات، مثل: الإطفاء، والإسعاف، والخِدْمات الصحِّية المدعومة بوكالة تقويم المخاطر الوطنية والجيش والشرطة، والوكالات المختصَّة بمواجهة الهجَمات غير الاعتيادية.
  • المرونة والصُّمود: وتعني الإدارة الناجحة والمثمرة للأزَمات، والقدرة على إعادة الحياة طبيعيةً لمواقع الهجوم والخِدْمات العامَّة المقدَّمة، مثل: الطاقة، والنقل، والمواصلات، وحُسن التعامل مع ضحايا الهجَمات الإرهابية والمتأثِّرين بها، على سبيل المثال: في مارس 2017م، أُسِّست الوَحدةُ الحكومية المشتركة لضحايا الإرهاب (VTU)؛ للتنسيق مع السُّلطات المحلِّية والشرطة والمنظمات الوطنية والإقليمية، والتحقُّق من تلقِّي الضحايا وأسر القتلى الدعمَ السريع، وهناك ملاحظاتٌ على العمل لعلَّ أهمَّها: أن معظم عمليات التعويض عن الأضرار المادِّية تذهب إلى المـُلَّاك وشركات الطيران بدلًا من الأفراد. 
الوقاية من الإرهاب 
يذكر الفصلُ الخامس أن الوقاية من الإرهاب هو العنصرُ الأكثر إثارةً للجدل في سياسة التصدي للإرهاب في بريطانيا، والمراد به: وقايةُ الأفراد من التحوُّل إلى إرهابيين، أو ثَنْيُهم عن دعم الإرهاب، ومواجهة الأفكار الإرهابية، وبيان فسادها، مع تقديم الدعم للأشخاص المتعاونين الذين هم عُرضةٌ للانضمام إلى الحركات الإرهابية. إنَّ محاولة تغيير الخصوم واحتوائهم، والعفو عنهم، وإعادة تأهيلهم، هو أسلوبٌ قديم ثبتت فائدته في مواجهة الأفكار المتطرفة في كثير من دول العالم. وقد حاولت إيطاليا في الثمانينيَّات نزعَ تطرُّف الحركات اليسارية، فأطلقت حملة «التوبة». وفي التسعينيَّات أطلقت بعضُ الدول الإسلامية، كمِصر والجزائر، برامجَ لعودة عناصر الجماعات المسلَّحة، والتخلِّي عن أفكارها. وفي أعقاب أحداث سبتمبر بدأت الدولُ الغربية في دمج هذه البرامج في سياسات التصدي للإرهاب. 

ويعود اهتمامُ بريطانيا بإستراتيجية «المنع» و«الوقاية» إلى عام 2002م عندما أعلنت حاجتَها إلى خُطط لمنع الأجيال الجديدة من الوقوع فريسةً للتطرف العنيف. وفي عام 2006م أعلنت الحكومة خُطط «المنع»، وتضمَّنت التعاملَ مع الأسباب المـُفضية إلى التطرف؛ بعلاج المشكلات الهيكلية داخل بريطانيا وخارجها، مثل: التمييز، وعدم المساواة، وردع مَن يشجِّعون الإرهاب ويجنِّدون الآخرين. 

وطُبِّقَت هذه السياسة على مرحلتين؛ امتدَّت الأولى من عام 2006م إلى 2011م، واتسمَت بغياب النقاش العام وعدم التخصُّص والحدود الواضحة والمؤسسات المعنية؛ لذا، كانت وسائلُ التنفيذ غيرَ واضحة، والمواردُ المالية المخصَّصة غيرَ كافية، وجرى الاهتمامُ بعدد من المنظَّمات والمؤسسات، مثل: الجماعات المحلِّية، والمساجد، والمدارس الإسلامية، والجمعيَّات الخيرية. وانتقلت مهمَّة مراقبة هذه المؤسسات من وِزارة الداخلية إلى إدارة الجماعات والحكم المحلِّي. وفي 2008م أعلنت الحكومة ضرورةَ تعاون كلِّ السُّلطات المحلِّية في تنفيذ هذه السياسة بخُططها الإستراتيجية، لكنَّها عانت أيضًا قصورًا واضحًا، مثل: عدم التمييز بين المؤسَّسات المعنية بالوقاية، والإيحاء بأن كلَّ الجالية الإسلامية في بريطانيا عُرضةٌ للمراقبة والتجسُّس، وافتقاد آلية التقويم، ومؤشِّرات الرقابة على تنفيذ الخُطط. وبدأت المرحلةُ الثانية مع حكومة الرئيس «ديفيد كاميرون» في عام 2010م، وأعادت صياغة إستراتيجية «المنع» وأهدافها على النحو الآتي: 
  • مواجهة التحدِّيات الفكرية للإرهاب.
  • الحيلولة دون انخراط الأفراد في هذه الجماعات، أو الاقتناع بأفكارها، ومنحهم النصيحة والدعم الكافي.
  • التعاون مع الجهات والمؤسسات التـي تواجه مخاطرَ التطرُّف. 
وكان التحوُّل الأساسي في هذه المرحلة؛ هو التعاون مع المؤسسات والقطاعات المعنية بدلًا من مراقبتها. لكن ظلَّت بعض الجوانب غير معالَجة، فضلًا عن ظهور صعوبات أخرى، كغياب معايير الشفافية. ووُجِّه نقدٌ لبرامج «نزع الأصولية»؛ لفِقدان الأسُس العلمية لتحقيق النجاح في تقليل المخاطر المتصوَّرة.

بيدَ أن أكبر التحدِّيات التـي تواجه خُطط الوقاية هي «الصورة العامَّة» لدى الجمهور؛ فقد حاولت المرحلةُ الثانية الاهتمامَ بالإرهاب بدلًا من العَلاقات داخل الجالية الإسلامية ومعها، ولصعوبة الفصل بين الجانبين استمرَّت مخاطرُ شعور المسلمين باستهدافهم؛ بدعوى الوقاية من الإرهاب. وتذهب بعضُ الآراء إلى أن خُطط المنع ما زالت تستبعدُ المتطرفين السابقين من أن يكونوا «نازعين للتطرف»، وهؤلاء قد يكونون أنجحَ في التعامل مع تحدِّيات التطرُّف؛ بسبب خبراتهم السابقة في هذا الصَّدد. وتنتقد آراءٌ أخرى إستراتيجيةَ المنع؛ لأنها قد تعتمد «القِيَم البريطانية» بديلًا لقِيَم المجتمعات المحلِّية المعنية، ولا سيَّما الإسلامية، وهذا يثير حساسية بشأن مدى اندماج المسلمين في المجتمع البريطاني.

ملاحقة الإرهابيين 
ويؤكِّد الفصلُ السادس أن ملاحقة الإرهابيين تتعلَّق بالاستجابة لتحدِّيات الإرهاب، وتعقُّب المنخرطين في العمليات الإرهابية، ومقاضاتهم. وهي عملية معقَّدة تتضمَّن عددًا من الإجراءات، من أبرزها إجراءان هما: 
  1. التجريم القانوني: يواجه هذا التجريمُ انتقاداتٍ شتَّى، منها: عدمُ وجود خطٍّ فاصل يفرِّق بين الجريمة الإرهابية وغيرها من الجرائم، مثل: القتل، أو حيازة الأسلحة غير المشروعة، أو المتفجِّرات. ممَّا يعني أن القانون الجنائيَّ البريطاني هو القاعدةُ التـي ستُبنى عليها ملاحقةُ الإرهابيين. والموادُّ التـي تعالج تلك الجرائمَ هي موادُّ عمومية لا تختصُّ بنوع معيَّن من المخاطر الإرهابية، فضلًا عن أن قانون الإرهاب الصادر عام 2000م احتوى تعريفًا لا يجعل الإرهاب مختلفًا من حيثُ الطبيعةُ القانونية والجنائية عن أيِّ جريمة أخرى. ويتَّفقُ المؤلِّفُ مع الرأي القائل بكفاية القانون الجنائي، وعدم الحاجة إلى قوانينَ تفصيلية للتعامل مع الاعتداءات الإرهابية، ما لم تبرُز حاجة مُلحَّة لذلك. 
  2. تعزيز الاستخبارات وجمع المعلومات: وهما مكوِّنٌ أساسي في خُطط مكافحة الإرهاب، ولهما وظيفة قانونية قضائية مهمَّة؛ فهما «الدليل» الذي يسوِّغ مُقاضاة المتورِّطين في الجرائم. وأصبحت الاستخباراتُ أكثر ثراءً مع تعدُّد مصادرها البشرية، مثل: المعتقَلين، والسُّجناء، والمخبرين، والعُملاء. فضلًا عن صور الأقمار الصناعية وإشاراتها، والبصَمات الحيوية. ونظرًا للأهمية القُصوى للمعلومات على الإنترنت، صدر قانونُ السُّلطات التحقيقية عام 2000م، وقانونٌ آخرُ في 2016م، يُتيح لضبَّاط الاستخبارات ومديري بعض الأجهزة الحكومية مراقبةَ تسجيلات الإنترنت دون إذن قضائي. 
ويثير جمعُ المعلومات قضيةَ «الحرية الفردية»، التي تتضمَّن مخاطرَ اختراق خصوصيَّة الفرد، ويزداد الجدل، إذا كان الأشخاصُ المستهدَفين ينتمون إلى جالية ما، مثل: الجالية الإسلامية التـي أصبحت موضعَ رقابة أمنـية. ومن أجل التوصُّل إلى توازنٍ ملائم بين الحقوق الفردية والجماعية من ناحية، وتمكين الاستخبارات من جمع المعلومات عن الجرائم الإرهابية من ناحية أخرى؛ دخلت الحكومةُ البريطانية في سلسلة مفاوضات مع مؤسَّسات ستراسبورغ (البرلمان الأوروبي) نتجَ عنها اتفاقٌ من أربعة بنود، هي: 
    أ. الدقَّة، أي وجودُ أساليبَ قانونيةٍ تضمن تخفيضَ الملاحقة الأمنية العَشوائية إلى أدنى درجة.
    ب. الحفاظ على تسلسُل القرارات المتعلِّقة بالمراقبة السرِّية في يد كبار المسؤولين. 
    ج. إخضاع النظُم البيروقراطية المعنيَّة، وليس القرارات الفردية، للتدقيق الفاعل من قِبَل البرلمان ولِجان مستقلَّة.
    د. تمكين المتضرِّرين من تقديم شكوى حالَ انتهاك حقوقهم وإجراء محاكمات خاصَّة. 

أمَّا أكثرُ الجوانب جدَلًا في عُنصر الملاحقة؛ فيتعلَّق بالإجراءات التنفيذية العقابية؛ إذ يخضعُ المتورِّطون في الجرائم الإرهابية للإجراءات العقابية نفسها للجرائم الأخرى، سواءٌ عند احتجازهم أو سَجنهم. والمشكلة هنا في أن بعضَ الأشخاص قد يكونون مجرمين غيرَ عاديين، كأن يخطِّطَ أحدهم لتفجيرٍ انتحاري يستهدف عشَرات الأبرياء. ولعلاج هذا الخلل، جرَّبت السُّلطات إجراءات أكثر تشدُّدًا، مثل: الاحتجاز الممتدِّ دون محاكمة (التوقيف الإداري)، وفرض قيود على السفر والتحرُّك، وسحب الجنسية البريطانية. وهذه الإجراءاتُ استثنائية، ومن الضروري أن تستندَ إلى أدلَّة قوية؛ حتى تدخلَ في إطار انتهاك حقوق الإنسان أو القانون.

المخاطر والاستجابات والتحديات 
يستخلصُ المؤلِّف في الفصل الختامي بعضَ الأفكار الرئيسة في دراسته، وأهمُّها:
  • خطرُ الإرهاب الذي تواجهه بريطانيا هو خطرٌ حقيقي؛ وتهديدُ الجمهوريين الأيرلنديين المنشقِّين هو الأقلُّ خطرًا، يليه إرهابُ اليمين المتطرف. والأكثر خطرًا هو إرهابُ الجماعات المتشدِّدة؛ فهو تمثيل محلِّي لظاهرة عالمية، ساعدت في تكوينها عواملُ تاريخيةٌ وثقافية وفكرية واجتماعية واقتصادية عميقة الجذور. وقد انخرطت بريطانيا منذ قرون في احتلال بعض الدول الإسلامية، على نحو أسهم في توليد مشاعرَ معادية تجاهها، لكنَّ هذا العامل لا يُعطي تفسيرًا مُقنعًا لظهور الفروع المحلِّية من التنظيمات المتطرفة. 
  • سياسةُ التصدي للإرهاب في بريطانيا هي الإطارُ العام الذي طوَّرته لندن على مدار عقدَين للتعامل مع التهديدات الإرهابية. واستندت في جوانبَ منها إلى خبرة التعامل مع التهديدات الأمنية في أثناء الاضطرابات التي حدثت فيما بين 1969م و1998م؛ وهي تتماثل معها في جوانبَ قانونية وسياسية كثيرة. وتتميَّز السياسة المعاصرة بأنها تستهدف بناء «صمود اجتماعي» في مواجهة العنف الإرهابي؛ لذا تتَّضحُ أهمية تأكيد العناصر الثلاثة الأولى من السياسة وهي: الاستعداد، والحماية، والوقاية.
  • أهمُّ التحدِّيات التـي تواجه هذه السياسة وخُططها الإستراتيجية: التثبُّت من شفافية تنفيذ القوانين والسياسات المتعلِّقة بها، وخضوعها للمحاسبة، وتوافقها مع حقوق الإنسان، وضمان وعي الجمهور وفهمهم لهذه السياسة، وإدارة آثارها الاجتماعية بحكمة. 

​وختم المؤلِّفُ كتابه بذكر أربعة أمور لا بدَّ منها، لدعم موقف المجتمع والدولة في مواجهة الإرهاب، وهي:

  • توعية المواطنين بخطر الإرهاب.
  • تفعيل القانون؛ لحماية المجتمع ومنع الإرهاب، مع مراعاة الحقوق والحريات الأساسية. 
  • مواجهة رُهاب الإسلام «الإسلاموفوبيا» وتوعية المواطنين بأهميَّة التفريق بين تطرُّف أفراد من المسلمين، وبين الإسلام الذي يدعو إلى السلام والعدل والتسامح.
  • ضرورة الاعتراف بالإسهامات النفيسة التي يقدِّمها المسلمون للمجتمع والحياة العامَّة في بريطانيا، ولا سيَّما إسهامهم في مكافحة الإرهاب نفسه.
voice Order

PDF اضغط هنا لتحميل الملف بصيغة

تحميل الملف
voice Order
العدد السابع والثلاثون
إصدار شهري، يقدم مراجعة علمية للكتب والدراسات المتميزة التي تعالج قضايا الإرهاب
19/05/2022 10:37