تسجيل الدخول
الجريمة المنظمة والشبكات الإرهابية
يُعنى الخبراء لفهم الجريمة المنظَّمة والشبكات الإرهابية فهمًا دقيقًا، بالأسباب التي تدفع الأفراد للانضمام إلى هذه الشبكات. وتُعالج هذه الأسبابَ كثيرٌ من مدارس علم الإجرام الوضعية والوظيفية والسُّلوكية؛ محاولةً تحديد دوافع المجرمين المنخرطين في الشبكات المنظَّمة، وفهم مساراتهم الإجرامية والإرهابية. وهناك حاجةٌ ملحَّة إلى تعاونٍ جادٍّ بين الباحثين والممارسين؛ فالدعاية والتجنيد المعتمِد عليهما يتطلَّبان وقايةً أكثر جَدوى لمحاربة التطرف والإرهاب، مع تفادي ردود الأفعال التي قد تُعرقل معالجةَ هذه الظواهر. 

من هنا برزت أهمية كتابُ (الجريمة المنظمة والشبكات الإرهابية) الذي وضعه مجموعة من الباحثيين وحرره فينسينزو روجييرو لتقديم فهم أدقَّ لطُرق الدعاية والتجنيد في الشبكات التي تستقطب أفرادًا عاديين معزولين اجتماعيًّا، وتحوِّلهم إلى متطرفين إرهابيين. وتُظهر روابطَ القرابة والصداقة بوصفها عواملَ رئيسةً في تطوير هذه الشبكات؛ إذ يبدأ التجنيدُ في الخلايا الاجتماعية الصغيرة التي تجهلها أجهزةُ إنفاذ القانون ويصعُب اكتشافها.

نحو فهم أدق
يستعرض الكتابُ دراسات المتخصِّصين والخبراء العاملين في مجال الجريمة المنظمة والإرهاب، ويبحث وجهات نظرهم، ويُبرز عمل المختصِّين الاجتماعيين، وموظفي إنفاذ القانون، وغيرهم من الخبراء الأوروبيين، مع العناية بفهم المواضيع المشتركة بين الجريمة المنظمة والإرهاب. ويصرُّ المؤلفون على ضرورة التحذير من الجريمة المنظمة، وتحديد الضرر الاجتماعي والاقتصادي الناتج عنها، والثُّغرات القانونية التي يستغلُّها المجرمون، والأساليب المتطوِّرة لإخفاء أنشطتهم وعائداتهم من الجريمة، وتوظيفهم العولمةَ وتقنية المعلومات والاتصالات الحديثة.

نظرة إجمالية
تواجه أوروبا عددًا كبيرًا من المتطرفين والمجنَّدين المؤهَّلين لشنِّ هجَمات إرهابية في أيِّ وقت، ولهذا تحاول الدول فهمَ الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية للتطرف العنيف. ويعتمد التطرف العنيف والشبكات الإرهابية غالبًا على عقائدَ فكرية مرتبطة بالهُويَّة، مع الاهتمام بالتهميش الاجتماعي والتغيير المؤسسي؛ لكونهما المحرِّكَين الرئيسَين للتجنيد.

أما الإرهابُ فيشير الكتابُ إلى الاتساق بين المخبرين والأعمال النظرية والتجريبية في مَيدان علم الإجرام والإرهاب. وإلى إسهام بعض الثقافات في تشجيع بعض أنواع العنف المتطرف، مقارنةً بالدراسات والنتائج السابقة، والحالة الاقتصادية التي يعانيها أولئك الذين ينضمُّون إلى الشبكات الإرهابية والإجرامية. ومن المثير للاهتمام وجودُ انسجام كبير في خُطط الردود على الإرهاب؛ إذ تُناقَش التدابيرُ المقترحة المنفَّذة في جميع أنحاء أوروبا وتُقوَّم، مما يدلُّ على التنسيق الكبير بين الباحثين والممارسين هناك. 

والأدلَّة ضافية على روابطَ عميقة بين الجريمة المنظمة والنشاط الإرهابي في عدَّة بلدان أوروبية، على سبيل المثال: هناك تأثير متبادَل بين الأوساط الإجرامية والإرهابية داخل السُّجون في إيطاليا، وهولندا، وفرنسا، والنمسا، وألمانيا، وبلجيكا، ولوكسمبورغ، والمملكة المتحدة، وأيرلندا. ففي هذه البلدان يستفيدُ المتطرفون من ذوي السجِلَّات الإجرامية من المهارات والعَلاقات الإجرامية لتنفيذ عمليات إرهابية. وهناك تنظيماتٌ إجرامية لا تتعاون مع الجماعات الإرهابية، ولكنَّها تورَّطت في تهريب البشر أو الأسلحة وغيرها من عمليات الاتِّجار غير المشروعة، وسهَّلت عملَ التنظيمات الإرهابية عن غير قصد.

وتُظهر دراساتٌ مَيدانية أخرى أن التنظيماتِ الإرهابيةَ تمكَّنت من شراء خِدْمات كثير من الجماعات الإجرامية، واستغلالها لتعزيز أهدافها السياسية. مثلًا: من التنظيمات المختلِطة التي تسعى في وقت واحد لتحقيق مكاسبَ مادِّية وسياسية، يبقى إرهابُ المخدِّرات الكولومبي بارزًا؛ فإن الاغتيالات والتفجيرات التي كانت بسببه كثيرة جدًّا. وتشير دراسةٌ أخرى عن إرهاب المخدِّرات في كولومبيا في السنوات الثلاثين الماضية، إلى اعتماد مجموعات حرب العصابات اليسارية والجماعات شبه العسكرية اليمينية، إلى حدٍّ كبير على عصابات المخدِّرات؛ للمساعدة في توفير التمويل لأهدافها السياسية.

ويقدِّم الفصل الأول قراءةً موجزة لمحتوى الكتاب، والسياق العام للدراسات المتصلة بالجريمة والإرهاب. ويناقش الفصل الثاني تصوُّرات العاملين في الخطوط الأمامية في مكافحة الجريمة المنظمة والشبكات الإرهابية. ويتطرَّق الفصل الثالث إلى الشبكات التي تضمُّ مجرمين تقليديين وإرهابيين، ويبيِّن التحدِّيَ في دراسة هؤلاء. ويعرض الفصل الرابع نماذجَ للجريمة المنظمة والإرهاب، ويرصد التطوُّرات في المجالات الاجتماعية والسياسية والتقنية لهذه الكِيانات. ويُعنى الفصل الخامس بالجريمة الإلكترونية، ويبحث في أثر تقنية المعلومات والاتصالات في أنشطة التنظيمات الإجرامية الحديثة. وينظر الفصل السادس في أنواع الإرهاب غير المنخفضة التقنية، مبيِّنًا أن التقنيَّات المتطوِّرة ليست سمةً ثابتة للهجَمات المعاصرة، فهناك من يعتمد على وسائلَ بُدائية مؤثِّرة. ويعود الفصل السابع إلى العَلاقة بين الجريمة والإرهاب وتأثير أحدهما في الآخر. ويهتمُّ الفصل الثامن بفهم هذه العَلاقة وَفقَ نهج (النمذجة الديناميكية) التي توظفها بعضُ الجماعات الإرهابية. ويدرس الفصل التاسع خُطط تمويل الجريمة المنظمة والإرهاب. ويقدِّم الفصل العاشر خُطط محاربة الجريمة المنظمة والإرهاب على المستوى الأوروبي. ويوضح الفصل الحادي عشر أثرَ التقنيَّات الحديثة في الجرائم المعاصرة، وفي الأنماط التقليدية للسُّلوك السيبراني. ونستعرض فيما يأتي أبرز ما ورد في هذه الفصول.

1. السياق العام
في السياق العام للدراسات المتصلة بالجريمة والإرهاب هناك أمران أساسيان ينبغي إبرازُهما هنا؛ الأمر الأول: ضرورةُ التمييز بين الجريمة المِهَنية والجريمة المنظمة؛ إذ تتميَّز الأولى بهيكل أفقي يعمل فيه المنفذون أقرانًا متساوين يخطِّطون وينفِّذون ويتقاسمون الأرباحَ والغنائم. والأمر الثاني: له عَلاقةٌ بالتمييز بين التخطيط والتنفيذ، وبيان العَلاقة بين صاحب المصلحة والمنفذ والمجنَّدين في العملية الإجرامية. ويعتمد المؤلفون في هذه الدراسات على خبرتهم المباشرة، وذلك بالاستفادة من التجارِب والقيود والصعوبات التي تواجههم في عملهم اليومي؛ فإن هناك قصورًا في فهم حيثيَّات الجريمة المنظمة وعَلاقتها بالظواهر الإرهابية. وقد سُلِّط الضوء على هذا النقص في المعرفة، وفي البحث النوعي القائم على جلَسات عمل مَيدانية. ويؤكِّد الخبراء أهميةَ التعاون مع الممارسين في المجالات الأخرى، ولا سيَّما التخصُّصات غير المعروفة نسبيًّا للجرائم الإلكترونية. وإضافة إلى ذلك، هناك إصرارٌ على ضرورة إنشاء مِنصَّات دَولية جديدة لتبادُل المعلومات عن الجريمة المنظمة والإرهاب.

وتعتمد الجريمةُ المنظمة اعتمادًا رئيسًا على ترويج المخدِّرات وعلى الجرائم الإلكترونية، مما يتطلَّب مزيدًا من سياسات الوقاية والخُطط الجديدة؛ لكثرة الثُّغرات القانونية؛ إما لضبابية القوانين، أو بسبب الشراكة مع الممثِّلين السياسيين الرسميين وروَّاد الأعمال الشرعيين الذين يدعمون أو يتسامحون مع هذه الجرائم. 

وغالبًا ما ينتُج عن الاهتمام بالأنشطة الإجرامية التقليدية، إغفالُ حالات استثمار الجريمة المنظمة في الاقتصاد الرسمي، أو التي تنتظم في تقديم الخِدْمات وتكوين شراكات مع جهات ناشطة شرعية، أو مع مؤسسات الدولة أحيانًا. ولا تُصوَّر هذه الكِياناتُ على أنها تنظيماتٌ للجريمة المنظمة أو الإرهابية، ولكن على أنها شراكاتٌ قانونية تربط بين الشرعية وغير الشرعية. 

2. تدابير مكافحة الجريمة
يظهر أن أهدافَ مكافحة هذا النوع من الجريمة مرتبطةٌ بالوظائف المهنيَّة للخبراء؛ فبدلَ الاهتمام بسوق العمل والرعاية الاجتماعية، تختار بعضُ الدول إنشاء وَحَدات خاصَّة للشرطة؛ لإنفاذ قوانينَ جديدةٍ خاصَّة بالمخدِّرات والقرصنة. واعتنى المؤلفون بأهمية الدمج الفعلي للشباب، وتمكينهم من التعبير عن آرائهم، ومن الوصول إلى قرارات مستقلَّة، مع زيادة مشاركتهم في المجتمع المدني، ودعمهم بالموارد المادِّية، وتدريب منفِّذي القانون والمحقِّقين على متطلَّبات الشباب.  

وأكَّدوا أن الاستجاباتِ المؤسسيةَ غالبًا ما تكون مدفوعةً بحالات الطوارئ، وتُحدَّد بواسطة البحث عن توافُق سياسي. وذكر بعضُ الذين أُجريت معهم مقابلاتٌ في هذه الدراسات أهميةَ توفير الحماية المناسبة للمُبلِّغين عن المخالفات في مكافحة الجريمة المنظمة. في حين نبَّه بعضُ العاملين في المجال القانوني على ضرورة الاهتمام بوَحَدات مكافحة الجرائم الإلكترونية، والعمل مع المؤسسات الخاصَّة، ولا سيَّما المصارف التجارية، والتنسيق الجادِّ والدائم بين القوانين الوطنية والدَّولية التي تنظِّم مجالَ الأمن السيبراني.  

وتُظهر الدراساتُ الميدانية أن أغلب المهنيين غير العاملين في مجال العدالة الجنائية، يفضِّلون النهجَ البشري والاجتماعي في محاربة الجريمة المنظمة. ويشير الأشخاصُ الذين أُجريت معهم مقابلاتٌ في هذه الدراسات إلى ضرورة التدابير الوقائية المستعجَلة والشاملة، وضرورة التقنيَّات الجديدة القادرة على تقويم جَدوى هذه التدابير في مكافحة الجريمة والإرهاب.

ومع أن الاضطراباتِ النفسيةَ والشخصية لها أثرٌ مهم في الإقبال على التطرف، قد ينضمُّ الأفراد إلى الشبكات الإرهابية بسبب نشأتهم في ثقافة حاضنة لآراء متطرفة؛ فهناك من ينضمُّ بحثًا عن الاستقرار، وعن بيئة حاضنة لم يجدها في بيئته. وهناك ارتباطٌ قوي بين الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وبين العُزلة والاغتراب لدى الشباب المتطرف.

ومن الصعب القطعُ بأثر العقائد والنصوص الدينية في ترويج الأفكار المتطرفة والإرهاب العنيف؛ فكما هناك نصوصٌ قد يُفهَم منها خطأً التشجيعُ على العنف، فهناك أيضًا نصوصٌ صريحة في الحثِّ على الحوار والسلام والتسامح وتنمية العَلاقات الطيبة بين الشعوب والأعراق والأديان. ويربط المؤلفون أيضًا بين العوامل النفسية للإرهاب والشعور بالظلم، والعَداء الجماعي للتسلُّط والقهر، وهناك مَن يلجأ إلى العنف لمناشدة الأفراد المضطهَدين في المجتمع؛ كالذين يحاولون إيصالَ صوتهم والتعبير عن موقفهم بأيِّ وسيلة. من ذلك: الشعورُ بالضعف، والتهميش، والتبعية التي يعانيها المسلمون في أنحاء العالم، مع ما تفيضُ به ذاكرة المسلمين من أمجاد الماضي، وعظمة حضارتهم السالفة، مما يُنتج حنينًا قويًّا لهذا الماضي الذي يبرُز في وجه أحوال الحاضر الرديئة، ثم لا يلبث أن يؤولَ إلى إحباط؛ نتيجةَ الفجوة الواسعة بين التوقُّعات والإنجازات، دون نسيان أطروحة الإحباط التي تنطبق على كلا النموذجين السائدَين للإرهاب؛ نموذج المتعصِّب العاطفي اللاعقلاني، ونموذج الناشط الحسَّاس المفتقر إلى القدرة على التعاطف البشري.

3. تدابير مكافحة الإرهاب
يعتقد كثيرٌ من المراقبين أن التعاون المباشرَ بين أجهزة الشرطة والاستخبارات أمرٌ مهم لتسهيل المراقبة وتسريع الاعتقال، ولهذا تأثيرٌ أكبر وأجدى من العمل العسكري الذي يستهدف قادةَ الإرهابيين أو البنية التحتية للإرهاب. وهناك أيضًا حاجةٌ ملحَّة إلى تدريب المختصِّين الاجتماعيين تدريبًا مناسبًا؛ لأجل الاهتمام بالشباب المعرَّضين للخطر. 

وتشير الدراساتُ إلى مسألة التوثيق القانوني للشباب (التائهين) دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وتؤكِّد أنه على الوافدين الجدُد تلقِّي الدعم والإرشاد المناسبَين من الخبراء والممارسين الميدانيين. وكما أن الأفرادَ والجهاتِ الناشطةَ الأخرى في المجتمع لها إسهام مهمٌّ في العملية الوقائية، التي تشمل النشطاء والخطباء الدينيِّين والضحايا والأُسَر، فإن أغلب الدراسات تؤكِّد أن التدابير الوقائية وغيرها من السياسات عادةً ما تكون نتيجةَ الضغط العام للشعوب على حُكَّامها وحكوماتها.

ويذكر المؤلفون أن جُلَّ المشاركين في الدراسة الميدانية لا يفرِّقون بين الجريمة المهنية والجريمة المنظمة، كما يجهلون العملياتِ التي تقوم بها التنظيماتُ الإجرامية للتأثير في الاقتصاد الرسمي، والتي تكون غالبًا في إطار قانوني. 

وبمناقشة أسباب الجريمة المنظمة وطُرق الوقاية منها، يميل كثيرون إلى ضرورة العناية بالتربية والثقافة الفرعية والمتغيِّرات السياسية والاقتصادية في المجتمع. وهناك تنافرٌ كبير بين وجهات نظر الممارسين في الميدان ووجهات نظر علماء الإجرام بشأن الوظيفة التي ينبغي أن يتولَّاها منفِّذو القانون، وبشأن النظام الاجتماعي البديل لمكافحة الجريمة المنظمة. وهناك إجماعٌ على ضرورة اتخاذ تدابيرَ اجتماعية أثبتت جَدواها في مجال مكافحة الإجرام، وعلى وجوب اتخاذ إجراءات وقائية عاجلة، وتشجيع تنفيذها على الصعيد الأوروبي. 

4. استهداف المدنيين
يُعدُّ المدنيُّون في المدن والشركات هدفًا سهلًا للمجرمين والإرهابيين؛ ومن ذلك مثلًا: هجومُ يوم الباستيل في نيس عام 2016م، حين قاد مهاجمٌ شاحنته الكبيرة على الأرصفة المزدحمة بالمدنيين الأبرياء المجتمعين للاحتفال؛ مما أدَّى إلى مقتل ستة وثمانين منهم. وانتهى الهجوُم بإطلاق الشرطة النارَ على المهاجم الذي سقط قتيلًا. 

ثم رأينا تطوُّرًا جديدًا في استغلال الإرهابيين للأهداف البشرية في أوروبا، حين وقع إطلاقُ نار على مركز تسوُّق في ميونيخ، في يوليو 2016م، بعد ثمانية أيام فقط من هجوم شاحنة نيس. وكان الجاني هنا شابًّا ألمانيًّا يمينيًّا متطرفًا، أطلق النارَ في المركز التجاري البافاري المزدحِم، مما أدَّى إلى قتل تسعة أشخاص وإصابة 16، ثم قَتَل الجاني نفسَه بعد تنفيذ جريمته. 

وبحسَب الخبراء، فإن هناك ثلاثةَ عواملَ متداخلة ساعدت على ظهور هذه الهجَمات منها: 
  1. سهولة القيام بالعمل الإجرامي.
  2. احتمال قتل عددٍ أكبرَ من الضحايا.
  3. ضعف الحضور الأمني في مكان الجريمة.
وتختلف التحدِّياتُ والمخاطر التي تواجهها الحكوماتُ وأجهزة المخابرات والشرطة؛ بسبب الوسائل المتغيِّرة التي يستخدمها الإرهابيون الأوروبيون، ومن ذلك:
  • طناجرُ ضغط محلِّية الصُّنع.
  • عبواتٌ ناسفة بالمسامير والأسمدة.
  • شاحناتٌ وعرباتُ نقل مستأجَرة أو مسروقة. 
  • أسلحة خفيفة وسكاكين.
  • الدعاية والتحرِّيض على الانتقام من القُوى الغربية التي يُنظر إليها على أنها تهديدٌ وجودي للإسلام والمسلمين.
  • نشر تقنيات التخطيط وبناء الهجَمات الإرهابية وأساليب تنفيذها باستخدام التقنية المنخفضة الكُلفة.
5. تقنيَّة المعلومات والاتصالات
بسبب التطوُّر المستمرِّ للتقنيات السيبرانية، والاستخدام المتواصل للإنترنت، طُوِّرت وسائلُ اتصال قوية، جعلت تبادلَ المعلومات والمعرفة والخبرات أسهلَ وأسرع، مما أدَّى إلى قيام عدد كبير من الأشخاص بتحويل أنشطتهم نحو الفضاء الإلكتروني. وفي العقود الماضية أدَّى الإنترنت إلى تطوير تقنيات جديدة مكَّنت من زيادة النشاط الإجرامي، ونشر التهديدات، وتمجيد العنف بين عدد أكبرَ من الشباب. وأصبحت الجريمةُ المنظمة القائمة على الإنترنت والإرهاب السيبراني مترابطةً ترابطًا وثيقًا، واكتسبت أهميةً أكبر مقارنةً بنظيراتها الإجرامية التقليدية.

أما في الإطار غير القانوني فتستغلُّ الجماعاتُ الإجرامية الفسادَ والعنف والتجارة المشروعة وغيرَ المشروعة؛ للحصول على السُّلطة، وزيادة النفوذ والمكاسب المالية. وفي الغالب لا تتبعُ هذه الجماعات تنظيمًا محدَّدًا، ولكنَّها تتدرَّج في التسلسُل الهرمي إلى شبكات هرمية، وخلايا تشمل جرائمَ الاتِّجار بالمخدِّرات، وتهريب المهاجرين، والاتِّجار بالبشر، وغسل الأموال، والاتِّجار بالأسلحة النارية، والمقامرة، والابتزاز، والتزييف، وتهريب الممتلكات، وفي هذا تهديدٌ كبير للأمن القومي والدَّولي، ويضرُّ بالاقتصادات المشروعة، مع آثار خطِرة على الأمن العام، والصحَّة العامَّة، والمؤسسات الديمقراطية، والاستقرار الاقتصادي.

وأكثر الممارسات شيوعًا في التصدِّي للتهديدات السيبرانية هي استعمالُ التعمية (التشفير)، وجُدران الحماية، والمواقع الموثوقة. ويسمح التشفيرُ بتحويل الرسائل أو المعلومات بطريقة لا تسمح لغير الأطراف المعنيَّة بالوصول إليها. ويبقى التخزينُ الدائم للمعلومات هو الطريقة المـُثلى التي يمكن اعتمادُها لتجنُّب تلف البيانات في حال انقطاع التيار الكهرَبائي عن النظام، أو تعطُّل بعض الأجهزة، مع العلم أن استخدام جُدران الحماية وبرامج مكافحة الجراثيم الإلكترونية (الفيروسات) يبقى أفضل طرق الوقاية. وبات نظامُ الحماية والأطُر المستندة إلى الثقة طرقًا وقائية متقدِّمة؛ لتوفير نهج قابل للتطوير، لمواجهة السلوك الإجرامي الناتج عن الهجَمات والتهديدات السيبرانية.

ومن الحلول التقنية الكثيرة لتحييد قراصنة التقنية «الهاكرز»، يذكر الكتابُ تقنية الثقب الأسود Blackholing، ونظام كشف التسلل (IDS)، وأجهزة التوجيه، والجُدران النارية. ويمتاز الثقبُ الأسود بقدرته على حظر كلِّ الهجَمات الخبيثة إلى أقصى حدٍّ ممكن، دون تلف المعلومات. أما أنظمةُ كشف التسلل السيبراني فقادرةٌ على كشف الهجَمات الخارجية، مع أنها تتطلَّب ضبطًا يدويًّا دائمًا من قِبَل الخبراء. وتُقدَّم احتمالات الاختراق أيضًا بواسطة أجهزة التوجيه، التي تعتمد على قوائم التحكُّم في الوصول، وتقوم أجهزةُ التوجيه بالحماية من بعض الهجَمات السيبرانية. ولجُدران الحماية إسهامٌ مهم في الحلول الأمنية لأيِّ مؤسسة، ويمكن استخدامُها وسائلَ منع تكميلية لوقاية أفضل.

هذا ويمكن اتخاذُ تدابيرَ مضادَّة لمنع الخطر والاحتيال التجاري أو تخفيفهما، بواسطة منصَّات التداول على الإنترنت، على النحو الآتي:
  • التحقُّق من المستخدِم، مما يضمن مستوًى عاليًا من الأمان، مع أنه يتطلَّب درجةً من الجهد، وتأخير التسجيل للمستخدِمين.
  • استعلامات captcha، التي تستخدم اختبارَ (التحدِّي والاستجابة)؛ لتحديد ما إذا كان المستخدِم إنسانًا أو لا.
  • حظر عناوين IP المتعلِّقة ببلدان معيَّنة، وتعطيل الوصول إلى عدد من الأنظمة الأساسية الشائعة.
أما الأساليبُ الشائعة والطرق المحدَّدة لمكافحة الاحتيال بالرسوم المسبقة فهي كثيرة، منها:
  • Scambaiting: إيقاع المحتالين عبر الإنترنت في الفخِّ، وتتضمَّن إضاعةَ وقتهم، واستغلالَ مواردهم. وزيادةُ الوعي بالاحتيال عبر الإنترنت. ويحاول المستدرجون إقناعَ المحتالين بأنهم ضحايا أبرياءُ مثاليون، وأنهم هدفٌ مربح. وغالبًا ما يستخدمون هُويَّة مزيَّفةً لهذا الغرض. 
  • تحديد البريد الإلكتروني العَشوائي، والتصيُّد الاحتيالي في الرسائل غير المرغوب فيها. وهي أداةٌ لمكافحة الجراثيم الإلكترونية (الفيروسات) باكتشاف البرامج الضارَّة المضمَّنة في رسائل البريد الإلكتروني، وSpamAssassin الذي يستخدم مجموعةً من القواعد لتحديد مصدر الرسالة.
  • التحقُّق من محتوى البريد الإلكتروني؛ باتِّباع مجموعة من القواعد أو الأدلَّة، لتحديد درجة احتمال وجود كلمات رئيسة أو عبارات معينة. وغالبًا ما تُطبَّق تقنيات التعلُّم القائمة على التجزئة؛ للحصول على دقَّة أعلى في تصنيف البريد الإلكتروني؛ هل هو بريد إلكتروني موثوق به أو لا؟
  • تحتفظ المناهجُ القائمة على السُّمعة بقوائمَ للمستخدَمين المصنَّفين سابقًا، وتصنِّفهم إلى (جيِّد) و(سيِّئ)، أو حسب مستوى الثقة، بواسطة روابط العَلاقات.
  • تهدِفُ الأساليب القائمة على استهلاك الموارد إلى تثبيط المحتالين؛ بإضاعة وقتهم ومواردهم، وزيادة تكاليفهم المتعلِّقة بعرض النطاق التردُّدي للشبكة، أو زمن الوصول. على سبيل المثال: نظام HashCash الذي يطلب من المرسِلين حلَّ لغز التشفير قبل إرسال بريد إلكتروني إلى متسلِّم ما.
العمل السرِّي والإرهاب
القنوات السرِّية (قنوات التوقيت وقنوات التخزين) هي مواردُ اتصال مستخدمةٌ لنقل المعلومات بطريقة غير قانونية، وتسمَّى القنوات السرية؛ لأنها مخفية عن آليات نظم التشغيل الخاصة بمراقبة الدخول. وهي تقوم بتعطيل السياسة الأمنية للنظام، وتستغلُّ طرق الاتصالات المتاحة لتفادي التعقب، وبثِّ الرسائل الضارَّة. وعادةً تُستخدَم قنوات التخزين السرِّية استخدامًا أكثر شيوعًا من استخدام قنوات التوقيت السرِّية؛ لأنها أسهلُ في الاستعمال. 

6. الهجَمات المنخفضة التقنية
منذ عام 2004م شهدت أوروبا 15 حادثًا إرهابيًّا كبيرًا؛ أربعة نفَّذها تنظيمُ القاعدة، وستة نفَّذها تنظيمُ داعش، وثلاثة نفَّذتها حركاتٌ انفصالية محلِّية، واثنان نفَّذهما الجناحُ اليميني القومي المتطرف. أما الهجماتُ الإرهابية الرئيسة منذ 2004م فكانت جميعَها تفجيرات: تفجير قطار مدريد عام 2004م، وقطار لندن عام 2005م، وقطار (مترو) مينسك في بيلاروسيا عام 2011م، حصد نحو 15 قتيلًا، وأكثر من 200 جريح. وقبل هذه الحوادث، من ديسمبر 1988 إلى فبراير 2001م، وقعت جميعُ الهجَمات الرئيسة في أوروبا. أما أعدادُ الضحايا فهي كالآتي: في 2014م (226)، وفي 2015م (193)، وفي 2016م (142)، وفي 2017م (205). 

وحدث تحوُّل في النموذج التقليدي لتنفيذ الهجَمات الإرهابية؛ إذ أصبح المنفِّذون يعتمدون على أساليبَ ذاتِ كُلفة وتقنية منخفضة؛ كالسكاكين في حوادث الطعن الجماعي، والمواد الكيميائية التي تُستخدم في صُنع القنابل البدائية. ويعتمد هؤلاء على نماذجَ محلِّية الصُّنع لعبوات متفجِّرة تحتوي على البنزين وغاز البروبان ونترات الأمونيوم؛ كالأسمدة الكيماوية التي يمكن شراؤها بسهولة. مما دفع وكلاء الاستخبارات إلى الاهتمام بمراقبة اتصالات الإنترنت؛ للكشف عن الإرهابيين الذين ينشرون معلومات عن صُنع القنابل، أو مشاهدة مقاطعَ متطرفة كالتي ينشرها تنظيما القاعدة وداعش.

وأسهمت التدابيرُ المضادَّة التي اتخذتها الدولُ، والسلطات الاستخباراتية الدَّولية، وسُلطات إنفاذ القانون، في تقليص الفرص المتاحة للإرهابيين للتخطيط والإعداد والتشييد للهجَمات باستخدام الأجهزة المتفجِّرة. وأبلت التحسيناتُ المـُدخَلة على أجهزة المسح الضوئي في المطارات بلاءً حسنًا في البحث والكشف عن هذه الأجهزة المتفجِّرة.

من تقليدية إلى معقَّدة
تمكَّنت الجريمةُ المهنية عالية التنظيم من السيطرة على الموارد والطاقات في كثير من الأسواق غير المشروعة، وعلى التنظيمات التي تعمل عالميًّا أن تتبنَّى سياسةً خاصَّة، وأسلوبَ عمل خاصًّا؛ لمساعدتها على الاندماج في البيئة المجتمعية المفتوحة. ومع نشاطهم في أعمال شرعية وأعمال غير شرعية، يُجبرهم وضعهم الجديد على التحالف مع جهات رسمية في الدول التي ينشطون فيها. ويمكن القولُ باختصار: تطوِّر الجريمةُ المنظمة أنشطتها وَفقَ تقاطع المصالح الاقتصادية مع الأحزاب السياسية للبلدان المعنية.

وفي هذه المرحلة تقوم التنظيماتُ بتطوير سِمات الشبكات، وقد تتَّبعُ هذه العمليةَ الجماعاتُ الإجرامية التقليدية، وكذلك الجماعاتُ الإرهابية المنظمة. والفرق بينهما أن شبكات الجريمة المنظمة تتحالفُ مع مجموعات وأفراد منخرطين في النهج الإجرامي نفسه، سواءٌ كان انخراطًا مباشرًا أو غيرَ مباشر، ومع أن لكلًّ منهم حالةً ثقافية وعِرقية مميِّزة ومختلفة، يضعون أهدافًا مشتركة على المدى المتوسِّط أو الطويل.

وغالبًا ما يكون العاملون الناشطون في الشبكات الإجرامية التقليدية (غامضين) اجتماعيًّا، أي إن أعمالهم ومِهَنهم الإجرامية تتداخل مع أعمال أخرى قانونية ورسمية. وتكوِّن هذه الشبكاتُ مناطقَ رماديةً تتداخل فيها الاقتصاداتُ المشروعة وشبه المشروعة وغير المشروعة تداخلًا ظاهرًا. وعلى النقيض من ذلك، تتطلَّب الشبكاتُ الإرهابية درجةً عالية من التجانس بين المشاركين الذين يُسهمون بما في وسعهم من التبرُّعات والدعم الخِدْمي. وحين تشير الشبكاتُ الإجرامية التقليدية إلى نوع من أنواع السُّلوك الجماعي، فإنها تُظهر علامات الهُويَّة الجماعية والحركة الاجتماعية، وفكرة التغيير الاجتماعي المدرَج في غاية معيَّنة، أو نهاية متخيَّلة للأفراد المنخرطين في هذه الجماعات.

7. بين الجريمة والإرهاب
تتبدَّى العَلاقةُ بين الجريمة والإرهاب في صور شتَّى يكشفها علمُ الجريمة التقليدي (الكلاسيكي). ويحاول هذا الفصلُ توضيح العَلاقة بين بعض أنواع العنف السياسي والإجرام التقليدي، فقد تُفضي الفوضى بين العناصر السياسية والإجرامية إلى مخالفات خطِرة تجاه الدولة؛ كالخيانة العُظمى والجرائم السياسية. ولمـَّا كانت هذه الجرائمُ مخالفاتٍ مدمِّرةً اجتماعيًّا وسياسيًّا، كانت الجريمةَ الوحيدة التي تستحقُّ عقوبةَ الإعدام؛ لمساسها بالأمن العام.

ويورد علماءُ الاجتماع أمثلةً واضحة على التحالف بين السياسة والجريمة المنظمة؛ لتكوين تحالفاتٍ تحقِّق أهدافًا مشتركة؛ كالاستحواذ على المال والسُّلطة والنفوذ السياسي. وتشير الدراساتُ إلى الصِّلة بين الجريمة والإرهاب في بعض أنواع العنف السياسي للأفراد وفي الإجرام العنيف، وذلك دون أن يكون الدافع سياسيًّا محضًا. والعملية الإجرامية قد تربط العملَ الإجرامي بمجموعة من السلوكيات التي قد تميِّز الثقافات الفرعية، سياسيةً كانت أو إجرامية.

ويمكن تصنيفُ التعاريف الأكثر شهرةً للجريمة المنظمة في «الأدبيات» الإجرامية بطُرق مختلفة، وفي كثير من الأحيان تدور تعريفاتُ الجريمة المنظمة حول مفهوم «الاحتراف»، حين يكتسبُ أعضاؤها مهاراتٍ وتقنيات وظيفيةً، بحُكم تفرُّغهم الكامل للإجرام. ويعتمد بعضُها على جوانبَ كمِّية بحتة تُعنى بعدد الأفراد المتورِّطين في الإجرام، وتؤكِّد أن هذا يحدِّد الدرجةَ التنظيمية والمهنية لتلك الجماعات. وتجدُر الإشارة إلى أن الجريمة المنظمة تختلف عن الجريمة العادية؛ فإن النشاط غيرَ القانوني للأولى يكون أكبرَ وأكثر تعقيدًا، كما أن موت قادة الجماعات المنظمة أو سَجنهم لا يوقف أنشطتَهم الإجرامية.

ويُلاحظ علماء الإجرام أن الجريمة المنظمة تعمل بالاعتماد على جماعاتٍ مرنة ومختلفة، ويواجه هذا الهيكلُ ضروراتٍ خاصَّةً بسبب الحالات غير القانونية؛ إذ تمارس قوتها القسرية تجاه أفرادها، مع حفاظها على السرِّية. ولذلك فإن التوازنَ بين الدعاية والسرِّية مهم؛ إذ لا يمكن تحصيلُه إلا بواسطة بنية معقَّدة، بالاعتماد على أنواع محدَّدة من السيطرة على الصراع، والشرعية الخارجية والاجتماعية؛ لاقتناص الفُرَص في الزمان والمكان المناسبَين.

8. ثنائية الجريمة والإرهاب
اكتسب التعاونُ بين الجريمة المنظمة والإرهاب اهتمامًا كبيرًا بسبب ازدياد النزاعات المسلَّحة الداخلية، وبسبب التغييرات (الديناميكية) العالمية، التي أدَّت إلى انخفاض الصراعات المباشرة والحروب التقليدية؛ إذ تؤثِّر النزاعاتِ المسلَّحةَ في بلدان كثيرة، وتغيِّر مجرى الأمور فيها؛ مثلًا: مع زيادة حركات التمرُّد، يُجنَّد متطوِّعون من دول مختلفة للانضمام إلى جماعات مقاتلة محلِّية ليكونوا مقاتلين أجانبَ فيها، ويُعزَّز أمراء الحرب في حالات الصراع الطويل ليصبحوا محاورين للمنظمات والهيئات الدَّولية، ولا سيَّما أولئك المجرمين المنظمين الذين يتحَدَّون الدول.

وهناك أيضًا تداخلٌ بين أهداف الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية؛ إذ يعتمد الوضعُ السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدول التي تعمل فيها هذه المجموعاتُ على السياقات المستقرَّة نسبيًّا، وتستمرُّ سلطات الدولة في احتكار الحقِّ في استخدام العنف، ويكون تدخُّلها مختلفًا تمامًا عن السلوك الذي يحدُث في السياقات العنيفة غير المنظمة. 

وفي الأراضي التي تتميَّز بالاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تسيطر المؤسساتُ على استخدام القوة ليسودَ حُكم القانون، وتخضع العَلاقاتُ بين الجريمة المنظمة والإرهاب لسلسلة من القيود. في مثل هذه الدول يستخدم المجرمون المنظمون العنفَ أداةً تكميلية لزيادة فُرَصهم التجارية داخل النظام، في حين يتوخَّى الإرهابيون بواسطة العنف تدميرَ النظام وزعزعته. فالعَلاقات بين الجريمة المنظمة والإرهاب مشروطة بحزم الدولة ورقابتها، ويقظة المجتمع المدني.

9. التمويل والأمن القومي
يتخذ تمويلُ الإرهاب أنماطًا تنظيمية مختلفة، وذلك بالاعتماد على شبكات وخلايا لمقاتلين أجانبَ أو جهات ناشِطة أخرى، كلٌّ منها يهدِّد تهديدًا مختلفًا، وله أهدافٌ وغايات مختلفة، واحتياجاتٌ ومواردُ مالية مختلفة. ولا شكَّ أن الجماعات والتنظيمات الكبرى تحتاج إلى مبالغَ طائلة، فمثلًا: تُقدَّر ميزانية حزب الله الإرهابي السنوية بنحو مئة مليون دولار، وربما تصل إلى 400 مليون دولار بحسَب مراقبين آخرين. في حين تُقدَّر الميزانية السنوية لتنظيم القاعدة الإرهابي (في ذروته) بين 16 مليون و30 مليون دولار. 

وإذا كانت الهجَماتُ التي يشنُّها إرهابيون منفردون بالسكاكين أو المركبات، تتطلَّب مبالغَ متواضعة، فإن كُلفة الهجَمات الكبرى التي تتطلَّب تخطيطًا تفصيليًّا وتنسيقًا واسعًا بين عدَّة جهات، قد تصل إلى مئات الآلاف من الدولارات، فالتكلِفة مرتبطة بحجم النشاط الإرهابي ونوعه.

وكما تفعل الجريمةُ المنظمة التقليدية، يمكن لجميع الجهات الإرهابية (من الجماعات، أو الخلايا، أو المقاتلين الأجانب، أو الذئاب المنفردة) الحصولُ على الأموال بوسائل غير قانونية. ومن جهة أخرى يميل الإرهابُ العابر للأوطان إلى استخدام الأعمال التجارية والشركات القانونية لجمع الأموال ونقلها، وذلك لإخفاء آثار المعاملات بانضوائها تحت مِظلَّة قانونية. 

وفي حالة الخلايا الصغيرة أو الناشِطين المنفردين، تشمل الأساليبُ القانونية الشائعة استخدامَ الرواتب والأجور والقروض المصرفية الصغيرة، أو حتى اقتراض الأموال من الأقارب والأصدقاء المقرَّبين. وكانت هذه أيضًا من الأساليب المفضَّلة التي استخدمها المقاتلون الأجانب الذين سافروا إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم داعش الإرهابي.

ولأجل التهرُّب من العواقب القانونية، يطوِّر الإرهاب نفسَه بطريقة تسهِّل إجراءاتِ التمويل، وتيسِّر التخطيط والإعداد لتنفيذ الهجَمات. ويتفق خفضُ التكلِفة مع الشحن الفكري الذي يشجِّع على اللجوء إلى الجريمة التقليدية، كونها وسيلةً لتوفير الأموال. وهذه الجوانبُ ليست جديدة، فقد امتازت بها أغلبُ الأنشطة الإرهابية السابقة في أوروبا، وإن كثيرًا من الإرهابيين الأوروبيين كانوا ناشطين في جماعات إجرامية على مدار سنين، قبل انخراطهم في الإرهاب. ولا يخفى أيضًا أثرُ السُّجون في تعزيز التطرف والتجنيد، وإنشاء شبكات إرهابية جديدة، مما يُظهر التأثير القويَّ الذي قد تُحدثه مؤسسات الاحتجاز والسُّجون في عمليات التطرف. 

ومنذ منتصف التسعينيات الميلادية، كان الاعتمادُ على الجرائم الصغيرة لتمويل الخلايا القتالية الأوروبية هو الأسلوبَ الثاني الأكثر استخدامًا. فقد اشتمل تمويلُ %28 من الأعمال الإرهابية التي ارتُكبت بين عامي 1994-2013م على أنشطة غير قانونية؛ كتهريب المخدِّرات، والاتِّجار غير المشروع بالسيَّارات، وتهريب الأسلحة، وبيع الوثائق المزوَّرة. وتورَّط كثيرٌ من أعضاء الجماعات الإرهابية في عمليات إجرامية محلِّية اعتمدوها لتمويل هجَماتهم.

وباتت هجَمات مدريد نمطًا غير مسبوق في العَلاقة بين الإجرام والإرهاب؛ فقد شارك المهاجمون في جرائمَ شتَّى، وحصلوا على الموارد المطلوبة بواسطة تكديس العائدات الإجرامية، من ذلك تهريب المخدِّرات لأجل شراء المتفجِّرات. واستُخدمت أساليبُ مماثلة لاحقًا في هولندا عام 2004م، ثم في تفجير إستوكهولم عام 2010م، وفي تولوز عام 2012م.

10. الجريمة والإرهاب العابران
لكلٍّ من الجريمة المنظمة والإرهاب آثارٌ بيِّنة في اضطراب أحوال المجتمعات، وزعزعة أمنها وسلامتها وتماسُكها في أنحاء العالم، وزادت هذه الآثار خطرًا مع تطوُّر الجماعات الإرهابية في السنوات الأخيرة في اعتمادها على المهارات الإجرامية اليومية. وتتصدَّر مواجهةُ هذه الأخطار جداولَ أعمال كثير من الحكومات، وتدفع المؤسسات المعنية إلى وضع قوانينَ محدَّدة، مع إطلاق مبادرات تعاون عابرة للحدود يُروَّج لها على الصعيدين المحلِّي والعالمي. وأصبح الاتحاد الأوروبي مهتمًّا بفهم التقاطُعات المحتملة بين الجريمة المنظمة والإرهاب، ومعالجتها. ويشارك الاتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومجلس أوروبا، على نطاق واسع في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، في حدود صلاحياتها وقدُراتها. 

وترى دول الاتحاد الأوروبي أن التقارب والتعاون بين الجريمة والإرهاب يمر عبر مجالات عدة من الأنشطة، ويمكن إرجاعُ اهتمام الاتحاد الأوروبي بالصِّلة بين الجريمة والإرهاب إلى عام 2012م، عندما كُلِّفَ البرلمانُ الأوروبي إجراءَ دراسة شاملة لهذا الموضوع، تناولت الشكوك في وجود تعاونٍ راسخ وطويل الأجل بين المجرمين والإرهابيين على الأراضي الأوروبية. وتشير الدراسةُ إلى روابطَ تنظيميةٍ مختلفة بين جماعات الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية. ولم يستغرق الاتحادُ الأوروبي وقتًا طويلًا لاتخاذ موقف رسمي بشأن هذه القضية.

ويتبع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء وسائلَ جديدة ومفيدة؛ لفهم العَلاقة بين الجريمة المنظمة والإرهاب، فهمًا أعمقَ وأدقَّ، ولتمكين تبادُل المعارف بين الممارسين والخبراء. ومع ذلك يبدو أن الاستخدام الكامل لهذه الوسائل محدودٌ؛ بسبب بعض القضايا التي تؤثِّر في عمل الشرطة عبر الحدود؛ كضعف التعاون والتنسيق، فإن الدول الأعضاء ملزمةٌ بمشاركة المعلومات مع وكالات الاتحاد الأوروبي، لكنَّ ذلك لا يتحقَّق دائمًا في الوقت المناسب، ولا يكون بطريقة منهجية مهنية مُجدية.

11. التقنية والجريمة والإرهاب
مكَّنت التقنيةُ الحديثة الأفرادَ والجماعاتِ الإجراميةَ من اكتساب مهارات جديدة، واستخدامها بمعزل عن الحيثيات المتعلِّقة بالإجرام أو الحرمان الاجتماعي، أو التفاعلات الرمزية بين الأفراد والجماعات. فهي مظهرٌ جديد للتفاعل والتنسيق بين المجرمين، ويبدو أنها تُلغي الاختلافات الفرعية. وتُستخدَم المهاراتُ التقنية لأغراض إجرامية من طرف جهات كثيرة؛ لأن هذه الجرائمَ لا تتطلَّب أي اتصال مباشر بالضحايا، مثل: مشغِّلي الطائرات المسيَّرة، الذين يتواصلون بواسطة الإنترنت باستخدام «شاشات» حواسيبهم، ويتجاهلون الضررَ الفعلي الذي يُلحقونه بضحاياهم.

جرائم الهُويَّة
أصبحت جريمةُ سرقة الهُويَّة الشخصية من الجرائم الإلكترونية الشهيرة في عصر التقنية، وذلك بمعدَّل تسعة ملايين حادثة سرقة سنويًّا! وتحاول الجهاتُ المختصَّة والحكوماتُ والمؤسسات الخاصَّة السيطرةَ على هذه الجريمة المستمرَّة؛ لتأثيرها المباشر في الأفراد والشركات والاقتصاد، مما يهدِّد سلامةَ الأمن المجتمعي. والضرر الذي تسبِّبه هذه الجريمةُ كبير، فإن ما يُسرق غالبًا لا يُستعاد، ويستمرُّ المجرمون في بيع الهُويَّات المسروقة والاتِّجار بها، واستخدامها في الأسواق غير المشروعة، وفي الشبكة المظلمة (Dark Web). وإن الإنجازاتِ التقنيةَ والطرق الجديدة التي تُدير حياتنا هي السببُ في انتشار هذه المشكلة. 

وهناك عنصران رئيسان لجرائم الهُويَّة؛ أولها: سرقة الهُويَّة، وثانيها: الاحتيالُ عند استخدامها. وعلى كثرة المحاولات لوضع حلول فاعلة، لا تزال هذه المشكلةُ قائمة وعصيَّة على الحل؛ بل إنها أدَّت إلى مزيدٍ من الارتباك لدى المواطنين والتجَّار. وقد تُسرق هُويَّة الشركات أيضًا للحصول على بيانات، أو سِلَع وخِدْمات أخرى. مثلًا: يندرج الاحتيالُ التسويقي الجماعيُّ ضمن هذه الفئة، حين يستخدم المحتالون هذه الطريقةَ للتظاهر بأنهم مصارفُ أو مؤسساتٌ رسمية، وذلك بواسطة رسائل البريد الإلكتروني، أو الاتصال بالأشخاص للحصول على بياناتهم الشخصية.

وتتحدَّى جرائم الهُويَّة الأنماط الإجرامية التقليدية؛ إذ تُتيح فرصًا جديدة غيرَ مشروعة للجميع. ويبدو أن هذا النوعَ من الجريمة يمنح فرصًا متكافئة لجهات مؤثِّرة مختلفة. وتُعَدُّ جرائم الهُويَّة من أكثر أنواع الجرائم حداثةً، وأسرعها نموًّا في العالم. وهناك عددٌ من المنظمات والشركات تنشر بياناتٍ عن الخسائر المادِّية بسبب جرائم سرقة الهُويَّة، والعبث بخِدْمات المصارف ومقدِّمي الخِدْمات المالية.

ولا يميِّز مجرمو الهُويَّة بين الصغار والكبار، فهم يستهدِفون الجميع، حتى الأمواتُ إن استطاعوا استغلالَ بياناتهم فعلوا! وهم يهاجمون الحكوماتِ والشركات الخاصَّة على السَّواء، صغيرةً كانت أو كبيرة. ويكون التأثير في الضحايا شديدًا في بعض الحالات. 

ومع أن القوانين الصَّارمةَ، والعقوباتِ الزاجرةَ، والضغط التنظيمي من الدول، له أثرٌ ملموس في محاصرة هذه الجرائم، تبقى تحدِّيًا خطِرًا قائمًا؛ للتضارب الحاصل بين ما تُدركه الحكومة وبين أولويَّاتها وحزمها في معالجة هذه القضية. إن كثيرًا من الحكومات تقرُّ بخطر سرقة الهُويَّة، وتعلن أن التصدِّيَ لهذه الظاهرة أولوية لديها، ولكنَّها أخفقت في معالجتها على الوجه المطلوب؛ لأن جهودها لم تكن كافيةً للقضاء عليها. وهذا يؤكِّد الحاجة إلى هيئة وطنية أوروبية موحَّدة؛ لمكافحة جرائم الهُويَّة، وإجبار الحكومات على إظهار الالتزام بخُطَّة طويلة الأجل، وتوفير الموارد المادِّية والتقنية اللازمة.
30/05/2022 10:09