تسجيل الدخول
الأصول الافتراضية: خصائصُ ومخاطرُ
​​​​التمويلُ هو عصَبُ الحياة للتنظيمات والجماعات الإرهابية؛ لذلك تسلك هذه التنظيمات كلَّ السُّبل للحصول عليه. وقد باتت العُملات الرَّقْميَّة "المشفَّرة" مصدرًا مُغريًا لتلك التنظيمات؛ فهي تتمتَّع بكلِّ ما يبحثُ عنه الإرهابيون من مزايا، مثل: السرِّية، والإفلات من رَقابة الحكومات، وسهولة التحويل وغيرها.

وقد ظهرت أكثرُ من ألفي عُملة رَقْميَّة مشفَّرة في العالم، أشهرُها (بتكوين)، و(ليتكوين)، و(أيثر) و(أيوس). بعضُها يصدُر عن مصارفَ رسمية، وبعضُها الآخَر عن جهات غير رسمية، فضلًا عن الجهات التي لها شبكاتُها الخاصَّة. وتتراوح أسعارُ هذه العُملات بين سنتٍ واحد وأكثر من 50 ألف دولار. ويرجع أصلُ العُملات الرَّقْميَّة إلى عام 1993م، عندما اخترع عالمُ الرياضيات ديفيد تشوم أولَ عُملة مُعَمَّاة "مشفَّرة" إلكترونية. وسمح موقع (Liberty Reserve) للمستخدِمين بتحويل الدولار أو اليورو إلى عُملة رَقْميَّة يمكن تبادلها بحرِّية مع نسبةٍ من الرسوم. وقد أغلقت الحكومةُ الأمريكية الموقعَ بعدما اكتشفت أنَّ عُملة الموقع الرقمية تُستغَلُّ في عمليات غَسْل الأموال وتمويل الإرهاب.

ولأهمية هذا الموضوع أقام التحالفُ الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، في الثالث من مارس 2022م، في مقرِّه بمدينة الرياض، محاضرةً بعنوان (مقدمة عن الأصول الافتراضية وأبرز مخاطرها)، قدَّمها الدكتور سالم باهمَّام، وهو مستشارٌ ومدرِّب في مجال الحوكمة. تناولت المحاضرةُ خصائص الأصول الافتراضية وأخطارها، وقدَّمت أمثلةً لطرق استخدام الجماعات الإرهابية للأصول الافتراضية، وإحصاءاتٍ متعلِّقةً باستغلال تلك الجماعات لهذه الأصول.

العُملات الرَّقْمية
استعرض المحاضرُ باهمَّام المعاييرَ والتوصياتِ الدَّوليةَ المتعلِّقةَ بالأصول الافتراضية، وأفضلَ الممارسات للالتزام بتلك المعايير الدَّولية لمحاربة تمويل الإرهاب، ومكافحة غسل الأموال، ذات العَلاقة بالأصول الافتراضية. 

وقدَّم المحاضرُ تعريفاتٍ شتَّى للأصول الافتراضية (العُملات الرَّقْميَّة)، منها تعريفُ مجموعة العمل المالي (فاتف): بأنها تمثيلٌ رَقْمي للقيمة التي يمكن المتاجرةُ بها أو نقلها رَقْميًّا، ويمكن استخدامُها لأغراض الدفع أو الاستثمار. ولا تشمل الأصولُ الافتراضية التمثيلَ الرَّقْمي للعُملات الورقية والأوراق المالية، وغيرها من الأصول المالية التي تضمَّنتها توصياتُ مجموعة العمل المالي الأخرى. أمَّا الهيئةُ المصرفية الأوروبية فعرَّفتها بأنها تمثيلٌ رَقْمي للقيمة التي لم يُصدرها المصرفُ المركزي، وهي مقبولة من قِبَل الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين، كونها وسيلةً للدفع، ويمكن تحويلُها أو الاحتفاظُ بها أو تداولها إلكترونيًّا.

خصائص وأخطار
حلَّل المحاضرُ خصائص الأصول الافتراضية، وعلى رأسها العالمية؛ إذ تنتشر هذه الأصول في كلِّ مكان في العالم بلا حواجز أو عوائق، إضافة إلى السرِّية التي تجعل من الصعب تعقُّبها وتتبُّعها أو الرَّقابة عليها، وسرعة التحويل وسهولته بلا وسيط، وقلَّة الرسوم، واستحالة مصادرتها أو تجميدها. 

هذه الخصائصُ أضافت إلى الأصول الافتراضية كثيرًا من الأخطار، لعلَّ أشدَّها استخدامُها في تمويل عمليات الإرهاب، وغسل الأموال، وتجارة المخدِّرات والأسلحة، والتهرُّب الضريبي، فضلًا عن التقلُّبات الكبيرة في قيمتها السُّوقية، وعدم قدرة أيِّ جهة على التحكُّم فيها أو السيطرة عليها، وهو مما يزيدُ من خطرها على النظام المالي العالمي.

استغلال الإرهابيين
لم يكن المدعوُّ "عظيم عبد الله" أحدُ عناصر تنظيم داعش الإرهابي، بحاجة إلى قدر كبير من الأموال لإنشاء موقع إلكتروني لحساب تنظيم داعش. فكلُّ ما كان يحتاج إليه هو السرِّية التامَّة، لذلك قرَّر في عام 2014م أن يتَّجهَ إلى العُملة الرَّقْميَّة المشفَّرة (بتكوين)، ودفع ما يزيد قليلًا على سعر (بتكوين) واحد، أي ما يقارب 400 دولار في ذلك الوقت، لتسجيل اسم الموقع الإلكتروني، وطلبَ إلى زائري الموقع التبرُّع للمساعدة في دفع ما سمَّاه (تكلِفة صيانة الموقع) باستخدام عُملة بتكوين. ولمـَّا كان إرسالُ التبرُّعات بالعُملة المشفَّرة التي تخفي هُويَّة المتبرِّعين خلفَ سلسلة من الرموز والأرقام، يجعل من الصَّعب على المصارف أو سُلطات إنفاذ القانون تتبُّعَ تدفُّق هذه الأموال، أصبح من السهل توظيفُها في تمويل الإرهاب. 

وقد تلقَّت إحدى الشبكات التابعة لتنظيم القاعدة، التي تتبَّعَتها الحكومةُ الأمريكية، أكثر من 15 (بتكوين)، تُقدَّر بآلاف الدولارات بإجراء 187 عملية في المدَّة من 5 فبراير 2019م إلى 25 فبراير 2020م. وأكَّد عضوٌ بمجموعة غوست الأمنية (Ghost Security Group) وهي منظمةٌ لمكافحة الإرهاب، أنَّ عُملة (بتكوين) بلغت نسبةً تراوح بين %1 و%3 من الدخل الإجمالي لتنظيم داعش، أي ما بين 4.7 مليون دولار و15.6 مليون دولار.

معايير وتوصيات 
بيَّن المحاضرُ المعاييرَ والتوصياتِ الدَّوليةَ المتعلِّقةَ بالعُملات المشفَّرة الافتراضية، ومنها مجموعةُ العمل المالي (فاتف)، التي طالبت في توصيتها رَقْم 15 الدولَ بجعل الأصول الافتراضية ممتلكاتٍ، أو عائداتٍ، أو أموالًا، وتطبيقِ التوصيات عليها، ثم تقويم المخاطر الناشئة عنها، وفهمها، ومطالبة مزوِّدي الخدمة بتراخيص رسمية، وأن يكونوا مسجِّلين وخاضعين للتنظيم والإشراف والرَّقابة، والتثبُّت من نظام عقوبات مناسب ورادع، والتعاون الدَّولي السريع، وتبادل المعلومات الضرورية.

أما مجلسُ محافظي المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية، فقد أوصى المؤسساتِ الماليةَ والهيئاتِ الإشرافيةَ، مثل المصارف المركزية، بإنشاء هياكلِ حوكمةٍ وإدارة ناشطة للمخاطر. وأصدرت مجموعةٌ من المصارف المركزية العربية والإسلامية عددًا من القرارات تضمَّنت الآتي:
  • حظر استخدام الأصول (المشفَّرة) من قِبَل المصارف والأفراد.
  • عدم قبول الأصول المشفَّرة لأغراض المعاملات التجارية الرسمية.
  • معاقبة التجَّار الذين يتعاملون بالأصول المشفَّرة، وَفقَ قانون مكافحة غسل الأموال.
  • عدم قَبول الأصول المشفَّرة، على أنها عُملة تتمتَّع بقوة إبراء قانوني.
  • التحذير من تعاملات الأصول المشفَّرة؛ لما تنطوي عليه من مخاطرَ عالية في تقلُّب الأسعار.
  • التحذير من أخطار استخدام الأصول المشفَّرة في عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وأوصت المصارفُ المركزية في الدول العربية بالموازنة ما بين مزايا إصدار العُملات الرَّقْمية والتحدِّيات والمخاطر المرتبطة بها، وضرورة التقويم الدقيق واختيار التصميم الأفضل والأكثر ملاءمةً للعُملة الرَّقْمية الصادرة عن المصرف المركزي، وتهيئة الأطُر القانونية والتنظيمية، وإيجاد المتطلَّبات الأخرى اللازمة لإنجاح إصدار هذه العُملة.

أفضل الممارسات
أوضحَ المحاضر باهمَّام أفضلَ الممارسات للالتزام بالمعايير الدَّولية لمحاربة تمويل الإرهاب ومكافحة غسل الأموال ذات العَلاقة بالأصول الافتراضية، وأهمُّها: التواصلُ والتوعية لتثقيف الجمهور، وتقديمُ المعلومات عن العُملات الافتراضية وبيان مخاطرها، ولا سيَّما في ظلِّ نقص المعلومات الصحيحة، وانتشار المعلومات غير الموثَّقة عنها في شبكة الإنترنت، والمراجعة القانونية لإنشاء بيئة قانونية تنظِّم العُملات الشرعية النظامية الصادرة عن المصارف، والاهتمام بالتدريب؛ لأن العُملات الافتراضية تعمل في بيئة تقنية عالية تحتاج إلى فرق عملٍ على درجة عالية من القدُرات والكفاءة.

الحتمية التقنية
في المناقشات التي أعقبت المحاضرة، سأل العميد الركن حامد بيغ ممثِّلُ باكستان في التحالف عن أثر تذبذُب أسعار العُملات الافتراضية في مستقبلها، وأجاب المحاضرُ بأن غاسلي الأموال ومموِّلي الإرهاب لا يخشَون من انخفاض قيمة العُملات الافتراضية بعد أن يشتروها، فهم على استعداد للتضحية بجزء من الأموال مقابل أن يغسلوا أموالهم ويجعلوها شرعية نظامية.

وذكر الدكتور محمد الصبيحي ممثِّلُ المملكة العربية السعودية في المجال الإعلامي، مسألةَ الحتمية التقنية، وضرورة التكيُّف مع التحوُّلات التقنية، وتوجيه استخدامها في مسارات إيجابية، وهو ما ينطبق على العُملات الافتراضية، فإن إصدار عُملات افتراضية شرعيَّة من مصارف الدول الرسمية يقلِّل اللجوء إلى العُملات الافتراضية غير الشرعية. وقد اتفقت المملكةُ العربية السعودية ودولةُ الإمارات العربية المتحدة على إصدار عُملة رَقْميَّة مشتركة باسم (عابر)، وأطلق المصرفان المركزيَّان في البلدين هذا المشروع؛ ليكون مبادرةً مبتكَرة، ومن أُولى التجارِب عالميًّا على مستوى المصارف المركزية في هذا المجال. وتهدِفُ هذه المبادرةُ إلى إثبات مبدأ إصدار عُملة رقمية للمصارف المركزية وفهمها ودراسة جوانبها، واستخدام تقنية السجلَّات الموزَّعة بواسطة طريق التطبيق الفعلي، والتعامل مع هذه التقنيَّات مباشرةً؛ لتنفيذ التحويلات المالية بين المصارف في البلدين على نحو يضمن تقليصَ مدَّة إنجازها وتخفيض تكلِفتها.​
30/05/2022 08:26