تسجيل الدخول
التحقيق المالي في جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب

​​

تضرب جرائمُ غسل الأموال وتمويل الإرهاب أمنَ العالم وسلامَه في مقتل، فالأعمال الإرهابية التي تنشر الرعبَ والتدمير في شتى بِقاع الأرض، تستند إلى تمويل كبير، وأصبح حجمُ جرائم غسل الأموال يراوح بين 950 مليار دولار و1.5 تريليون دولار، وفقًا لإحصائيات صندوق النقد الدولي. وتزداد وطأة هذه الجرائم في ظلِّ ثورة الاتصالات والتطور المذهل في تقنية المعلومات، التي جعلت العالم قرية كونية صغيرة، وسهَّلت حركة الأموال وحرية تحويلها عبر الحدود الوطنية بواسطة النُّظم المالية، واسعة الانتشار، وسريعة الحركة، وبالغة التعقيد.
أخطار اقتصادية واجتماعية 
في بداية المحاضرة، أكَّد الأستاذ المقحم أنَّ جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب خطرٌ جسيم على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في أيِّ دولة، ولا سيَّما تلك الدول التي تعاني ضعف المعايير المتَّخذة في مكافحة هذه الجرائم.
على المستوى الاقتصادي، تؤدِّي هذه الجرائم إلى تدنِّي سمعة النظام المالي، وحرمان الدولة مواردَ مالية مهمة يمكن تخصيصها للتشغيل والتنمية، وترفع معدلات التضُّخم، وتؤثِّر في قواعد المنافسة الشريفة والنزيهة.
وعلى المستوى الاجتماعي، يؤدِّي عدمُ ملاحقة متحصلات الجرائم إلى تمكُّن مرتكبيها من استغلال تلك المتحصلات في استمرار الجريمة، ومن ثَمَّ استغلالها في تمويل الإرهاب. ويؤدِّي انتشار عمليات غسل الأموال، في أيِّ مجتمع، إلى زيادةِ معدلات الجريمة، وتراجع قيم التعليم والثقافة. 
أوجه الشبه والاختلاف 
تناول المحاضر أوجه الشبه والاختلاف بين جرائم غسل الأموال وجرائم تمويل الإرهاب، فأوضح أنَّ كلا النوعين من الجرائم يقوم على الإخفاء والخداع والتمويه، ويحتاج إلى تعاون إستراتيجي دولي، نظرًا لطبيعتها العابرة للحدود، كما تحتاج تلك الجرائم في كلا النوعين إلى معالجة رقابية وإجراءات التحقيق المالي. وفي المقابل، تتعدَّد أوجه الاختلاف بين كلا النوعين من الجرائم من أوجهٍ عدة، أهمها: 
مصدر المال: فجرائم غسل الأموال مصدرها غير مشروع؛ لأنَّ أموالها تأتي من مصادر مجرَّمة (تجارة مخدرات، تهريب آثار، تهريب سلع محظورة، المتاجرة في البشر... إلخ)، أما تمويل الإرهاب، فيكون بأموال مشروعة، وأخرى غير مشروعة.
حجم الأموال: جرائم غسل الأموال تتضمَّن مبالغ طائلة، لا تقارن بحجم أموال جرائم تمويل الإرهاب.
الهدف: هدف جرائم غسل الأموال ربحي مالي، أما هدف تمويل الإرهاب فهو سياسي أو فكري. 
أسلوب حركة الأموال: تتحرَّك الأموال في جرائم غسل عبر مؤسسات مالية بأسلوب دائري، يبدأ بالغاسل، وينتهي إليه، أما أموال تمويل الإرهاب فقد لا تسلك طريق المؤسسات المالية، وتأخذ مسارًا خطيًّا يبدأ بالمموِّل، وينتهي بالتنظيم الإرهابي.
مدار الكشف: في جرائم غسل الأموال ينصبُّ الكشفُ على معرفة العلاقات بين الأشخاص المتورِّطين في الجريمة، أما جرائم تمويل الإرهاب فيكون الاهتمام فيها بالأموال وحركتها. 
واستعرض المحاضر أبرزَ أساليب إخفاء الأموال في تلك الجرائم، مثل: التعاملات الإلكترونية التي أصبحت من أخطر الوسائل التي يستخدمها المجرمون، إضافةً إلى التعامل بالسلع التي لا معيار لقيمتها، ولا ضابط لأسعارها، مثل: التحف، واللوحات الفنية، وكذلك إنشاء شركات وهمية، والإقرار الجمركي بادِّعاء شخص أنه يحمل أموالًا، ويأخذ إقرارًا بهذه الأموال المدعاة، يستخدمه في إيداع أموال مشبوهة، وتقسيم الأموال وتجزئتها، مثل: فتح أكثر من حساب بنكي، أو التحويل إلى أكثر من مستفيد، واستخدام عقود وتوريدات كبيرة وهمية، وتهريب الأموال.
دور التحقيق الموازي
تناول المقحم التحقيقَ المالي الموازي وأثره في مكافحة جريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فقال إنَّ هذا التحقيق يُقصد به جمع الأدلة المادية المالية بواسطة الكشف عن التعاملات المالية للمشتبه بهم، وكشف الحركات المالية لهم، لتحديد متحصلات الجريمة الأصلية وجريمة غسل الأموال أو وسائطهما، والتحفظ عليها، أو تعيينها وتتبُّعها، وتقديم الأدلة اللازمة للتحقيق، وتوجيه الاتهام والحجز والمصادرة.  وقد ذكرت مجموعة العمل المالي (FATF) في إحدى توصياتها أنه يجب على الحكومات إجراء تحقيق موازٍ استباقي فيما يتعلَّق بكلِّ قضايا غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والجرائم الأصلية المرتبطة بها، أي أنَّ المحكمة، وهي تشرع في التحقيق في إحدى الجرائم الأصلية التي يتصوَّر أنها ترتبط بمتحصلات مالية، تقوم بفتح تحقيق مالي بموازاة مع التحقيق الجنائي، تقوم في أثنائه بالبحث عن المتحصلات المالية للجريمة، وتتعقبها، وتقدِّم الأدلة لربط تلك المتحصلات المالية بالجريمة الأصلية.
ويُتَّخذ نجاحُ التحقيقات المالية الموازية في استرداد متحصلات الجرائم معيارًا مهمًّا لتحديد مدى التزام الدولة بمتطلبات مكافحة جرائم غسل الأموال، وعاملًا أساسيًّا في تقييمها على المستوى الدولي، ومن ثَمَّ رفعها من قائمة الدول عالية المخاطر.
ويُعَدُّ إجراء تحقيق موازٍ إجراءً استباقيًّا، إذ إنه يحدِّد عائدات الجريمة الخاضعة للتحقيق، ويحول دون تسلل الأرباح غير القانونية إلى الاقتصاد، ومن ثَمَّ يزيل أدوات ارتكاب الجريمة في المستقبل، ويعزِّز المبدأ المهم في القانون والمجتمع، الذي يؤكِّد عدمَ استفادة أيِّ شخصٍ من الجريمة.
وتنبع أهميةُ التحقيق المالي والتحقيقُ المالي الموازي، من دوره في تحديد حركة المال وتوثيقها، فهو يحدِّد الدوافع والصلات بين الأشخاص، ويكشف كلَّ المشاركين في العمل الإجرامي، والبنية التنظيمية للمنظمات الإجرامية، ويحدِّد خطورة كلِّ متهم، ويرصد عائدات الجريمة الخاضعة للتحقيق، ويساعد على كشف جرائم أخرى، ويحدِّد أماكن المشتبه بهم، والشهود، والضحايا، والوسائل والأساليب المستخدمة في الجريمة.
أساليب التحقيق ومصادر معلوماته
عرض المحاضر أهمَّ الأساليب المستخدمة في التحقيق المالي الموازي، ومصادر المعلومات المتعلِّقة بها، وأشار إلى أنَّ الأساليب عديدة، منها ما يتبع إجراءات سرِّية مخفية، ومنها ما يتبع إجراءات علنية مكشوفة. ومن أبرز إجراءات النوع الأول: 
البحث والتحري الميداني، بالانتقال والمعاينة والمراقبة الفعلية.
العمليات السرية، حيث يتخفَّى رجل الضبط الجنائي في هيئة رجل يمارس النشاط نفسه الذي يمارسه المتهم ويقابله؛ ليعرف أبعاد الجريمة، والأطراف المشاركة فيها. وعادةً ما يخضع رجال الضبط الجنائي الذين يقومون بهذه المهام لتدريبات مطوَّلة حتى يتقنوا مهارات التخفي.
التسليم المراقب، وذلك بترك المتهم المراقب يمضي في نشاطه (تسليم مخدرات مثلًا)، حتى يمكن معرفة جميع المتورطين وأعضاء الشبكة الإجرامية، والقبض عليهم في حالة التلبس، ومن ثَمَّ ضمان إدانتهم.
مراقبة الاتصالات بعد استئذان النيابة، لرصد اتصالات المتهمين وعلاقاتهم الداخلية والخارجية. 
مكاتبة الجهات المختصة لمعرفة ما يملكه المتهم.
أما أساليب التحقيق التي تتبع إجراءات علنية فأبرزها: تكليف المتهم بإحضار الوثائق المثبتة لمصدر أمواله، واطلاع رجل الضبط الجنائي على المستند المادي المالي الورقي، ومناقشة المتهم ومواجهته.
كما تتعدَّد مصادر المعلومات في التحقيق المالي الموازي وأبرزها:
المعلومات الجنائية، وهي السجل الجنائي الذي يحدِّد سوابق المتهم.
الأجهزة الإلكترونية العائدة للمتهم، وهي من أهم مصادر المعلومات وأقواها، ويجب على رجال الضبط الجنائي المبادرة بتفريغ المعلومات التي تحويها هذه المصادر قبلَ تعرُّضها للتلف أو التخريب المتعمد.
المعلومات المالية في المؤسسات المالية، مثل: البنوك، وبورصات الأموال.
المعلومات المصنفة، وهي التي ترتبط بالجانب الأمني لدى الأجهزة الأمنية.
المعلومات التنظيمية لدى الجهات التنظيمية، مثل: الهيئات الصناعية والتجارية، والجمارك، والجوازات، وغيرها، فهي تضمُّ معلومات يمكنها أن تفصح عن جوانبَ ونشاطاتٍ مهمة للمتهمين في جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
المناقشات 
عقب انتهاء المحاضر من عرض محاضرته دارت نقاشات وأسئلة عدة بين أعضاء التحالف والمحاضر، ومنها سؤال العميد الركن نواف الجطيلي، ممثل دولة الكويت في التحالف، عن مؤشرات وجود جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فأجاب المحاضر بأنَّ المؤسسات الرقابية لديها مؤشرات لذلك، منها مثلًا وجود حركة مالية لا تناسب دخل صاحبها. وسأل العميد الركن راشد الظاهري، ممثلُ دولة الإمارات في التحالف، عن استغلال مشاهير تطبيقات التواصل الاجتماعي في غسل الأموال، وكيف يمكن متابعة ذلك والتصدي له؟ فأجاب المحاضر بأنَّ المتورطين في جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب دومًا يسارعون إلى ابتكار أساليب جديدة لهذه الجرائم، ومنها استهدافهم لمشاهير منصات التواصل الاجتماعي، لعدم وجود معايير أو ضوابط لأموالهم، ومن هنا تأتي أهمية توثيق أموالهم، وتنظيم المحتوى الإعلاني في صفحاتهم، وقد اتخذت المملكة العربية السعودية خطوات مهمة في هذا الصدد.



19/04/2022 11:05