ظاهرة التطرُّف والإرهاب من أخطر الظواهر التي تواجه العالم العربي، بل العالم بأسره في الوقت الحالي، وللثقافة والفنِّ أثر ٌكبير في مواجهة الفكر المتطرِّف، لا يقلُّ أهميةً عن الأثر الأمني والعسكري، إن لم يكن هو خطَّ الدفاع الأول؛ لأن الأزمة في الأصل هي أفكارٌ شاذَّة ومنهج فاسد، لا بدَّ من محاربتهما بالفكر الصحيح؛ لتبصير الشباب والأجيال الناشئة بخطر هذه الأفكار، وبثِّ روح الانتماء إلى الأمَّة والمجتمع، وكان من الطبيعي أن تهتمَّ السينما بهذه الأزمة، وتقدِّمها في أكثرَ من عمل فنِّي، وبرؤى مختلفة.

تنبُّؤ سينمائي
يُذكر للسينما المصرية تنبُّؤها بصعود التطرُّف وبخطره على المجتمع، وكان ذلك أوائل السبعينيات الميلادية، وتحديدًا في نوفمبر 1972م بفيلم «خلِّي بالَك من زوزو» الذي شهد أولَ ظهور للإنسان المتشدِّد (مثَّله محيي إسماعيل) الذي يرفض ملابسَ زميلته المتحرِّرة وممارستَها الرياضة، ويحاول منعها بكلِّ طريقة، وقد ضايقها في حرِّيتها الشخصية وإن لم يستخدم العنف معها. ثم في أبريل 1973م قدَّم الكاتب رأفت الميهي فيلم «غُرباء» المتضمِّن شخصيةَ شابٍّ متخرِّج في الجامعة (مثَّله شكري سرحان) محبَطٍ يبحث عن فرصة عمل، ولمـَّا أعيته الظروفُ وقتلت طموحَه لجأ إلى التديُّن هربًا من مواجهة أزمته. وفي المقابل كانت أختُه الصغرى (مثَّلتها سعاد حسني) طالبةً في الجامعة، وتعمل في أحد الفنادق، ما سبَّب له أزمةً نفسية، فصار يضغط عليها محاولًا منعَها من العمل واستكمال دراستها، والاعتراض على ملابسها ونمط حياتها. ثم توالت الأفلامُ التي تناولت هذه الشخصيةَ النمطية، حتى وصلنا إليها عندما تحوَّلت إلى العنف والقتل.

وكان للسينما المصرية السبقُ في تناول هذه الظاهرة مبكرًا، وإلقاء الضوء عليها قبل تعاظُم خطرها، في حين جاءت السينما العربية بعد ذلك، وقدَّمت أعمالًا جيدة، على الرغم مما تواجهه من منع وتقييد، كما هو الحال في السينما الجزائرية التي لولا الإنتاجُ المشترك ما استطاعت أن تقدِّمَ أي عمل. 

ظهور شخصية الإرهابي
قُدِّم الإرهابيُّ في السينما في صورة شخص متشدِّد يعاني أزمةً نفسية وإحباطاتٍ كثيرة، ولجأ إلى التديُّن للهرَب من هذه الأزَمات، ثم كان فظًّا غليظًا مع المحيطين به في مجتمعه، وحمَّلهم جَريرة إخفاقه وإحباطه. وهذا العرضُ كان مناسبًا في ذلك الوقت؛ إذ لم تكن قد ظهرت أيُّ تنظيمات جهادية مسلَّحة تمارس القتلَ والعنف تجاه الآخر. لكن في الأعمال التي تلَت هذه المرحلة ظهر الإرهابيُّ أكثرَ عنفًا وأكثر قسوة وتشدُّدًا، ولديه كبتٌ جنسي. وظهرت التنظيماتُ الجهادية، والتمويلات، والاستخدام الخاطئ للدِّين وتفسيراته. 

لكنَّ الاستمرار في تقديم الإرهابي في صورة المريض النفسي هي نظرة قاصرةٌ وغير موضوعية، وعاب ذلك العديدَ من الأعمال، حتى إن بعض الأعمال قدَّمته بسُخريَّة بسبب طريقة ممارسته لحياته، ومنها العبادات، كما في الأفلام الآتية: «الإرهابي»، و«القرموطي على خطِّ النار»، و«جواب اعتقال» وغيرها، وهو ما أكسبَ هذه الشخصيةَ بعض التعاطف لدى المنتمين إلى هذا التيَّار، وعامَّة الناس، خاصَّة مع اتِّهام شيوخهم للسينما بأنها تشُنُّ حربًا على الدِّين والإسلام عبر السُّخريَّة من رجال الدِّين والعبادات. 

ثم ظهرت شخصيةُ الإرهابي على نحوٍ أعمق وأقوى في أعمال الكاتب «وحيد حامد»، في صراع السلطة والمصالح في فيلم «طيور الظلام» الذي حمَّل النظامَ مسؤولية قيام هذه التنظيمات المتطرِّفة؛ بسبب الاتفاقات الضمنية والسرِّية فيما بينها، على الرغم مما يظهر من عَداء غير حقيقي في العَلَن. وقدَّم كذلك فيلم «دم الغزال» الذي تناول صراعَ القوة بين لصٍّ وشخص لجأ إلى الجماعات المتطرِّفة بغرض مساعدته في الانتقام، وهو ما وجدت فيه الجماعاتُ المتطرِّفة فرصةً لتحميل شخص لا ينتمي إليها كلَّ جرائمهم.

إضافةً إلى تجارِب المخرج الشهير «يوسف شاهين» المميَّزة في فيلم «المصير» الذي عرض فيه ظاهرة التطرُّف والإرهاب في إطار تاريخي يُبرز حربَ الجماعات المتطرِّفة والمموَّلة من الأعداء على الفيلسوف ابن رُشد، التي انتهت بتكفيره وحرق كتبه. ثم قدَّم شاهين شخصيةَ الإرهابي مرةً أخرى في فيلم «الآخر» ولكن بصورة قاتل مأجور يتعاون مع العولمة والكِيانات الرأسمالية لخدمة مصالحهم المشتركة، وانتهى الفيلم بمقتل الحبيبين على يد هذا التحالف.

ولدينا فيلم «الناجون من النار»، وهو مسمًّى باسم إحدى الجماعات المتطرِّفة، وتتناول أحداثُه أحدَ الإرهابيين المتَّهمين بعمليات قتل وتفجير، وشقيقَه الضابط الذي يعيش صراعًا بين القبض على شقيقه وتسليمه من جهة، والحزن عليه من جهة أخرى، حتى يقومَ الإرهابي باختطاف شقيقه من أجل مساومة الشرطة على الإفراج عن إرهابيين من جماعته مقابل إطلاقه. ومن آخر الأعمال التي جسَّدت شخصيةَ الإرهابي كان فيلم «الضيف» الذي تناول دخولَ أحد المتطرفين إلى منزل كاتب كبير، ويدور حوارٌ ونقاش بين الإرهابي من جهة والكاتب وعائلته من جهة أخرى.

وهناك أعمالٌ أخرى تناولت الإرهاب بعيدًا عن التطرُّف الدِّيني، عبر قصة شخص مجهول يدخل البلد بجواز سفر مزوَّر لتنفيذ تفجيرات وعمليات تخريبية لصالح جهات معادية، ومن هذه الأعمال فيلم «انفجار»، وفيلم «الإرهاب»، وقد أدَّى «فاروق الفيشاوي» في العملين شخصيةَ إرهابي أو قاتل محترف مجهول الجنسية، ينفِّذ عمليات إرهابيةً لصالح جهات ودول مقابل أجر. كما ظهر الإرهابي ضحيةَ ظلم أو ظروف قَهرية كما في فيلم «الإرهاب والكباب» للكاتب «وحيد حامد»؛ إذ أوقعته الظروفُ في موقف حمل السلاح وحجز رهائنَ مقابل تنفيذ الحكومة لطلباته، وأدان الفيلم الدولةَ التي قد تُحرِّض على الإرهاب بسبب غياب العدل والمساواة فيها، وأدان المواطنين الذين لم يرفضوا الظلمَ ولم يطالبوا بحلِّ مشاكلهم وتحقيق مطالبهم.

نجاح أو إخفاق؟
ومن الأسئلة الحاضرة في هذا الموضوع، هل أحسنت السينما في عرض فكر التطرُّف والإرهاب ونقده؟ ويمكن القول: إن هذا لم يحدث؛ إذ غلبت على هذه الأعمال النمطيةُ والسطحية والتكرار إلى درجة التطابق؛ قاتلٌ مأجور يقدِّم خِدْماته من أجل المال فقط، أو شخص مريضٌ نفسيًّا غير متَّزِن يمارس العنفَ في المجتمع وعلى أقرب الناس إليه، بعد أن كفَّرهم جميعًا! وقد جرى عرض ذلك دون شرح ولا تناول عميق للأسباب والمسوِّغات التي دفعته إلى التكفير والقتل. هذه المسوِّغات التي أقنعت أجيالًا من الشباب منذ نهاية السبعينيات إلى الآن، وكان الأجدرُ بهذه الأعمال أن تناقشَ هذه الأفكار بعُمق وجدِّية أكثر. وكذلك أن تعرضَ الفكر المعتدل والمنتقد لهذه التنظيمات؛ لأن القضية في الأساس قضيةُ فكر شاذٍّ، وتفسير خاطئ للدِّين، ومن الضروري فضحُ هذا الفكر وحامليه والمروِّجين له والمتعاطفين معه، بدلًا من الاكتفاء بإنتاج أفلام تجارية بحتة استغلَّت الشخصية الإرهابية كونها باتت قضيةً مهمَّة وطاغية على الساحة؛ لتحقيق نجاح تجاري تحت اسم مناقشة قضايا خطِرة، ولو استُبدِل الإرهابيُّ بقاتل مأجور أو تاجر مخدِّرات في بعض الأعمال لما شعرنا بأي اختلاف؛ لأن الفكر غائب، والأمر أعقدُ وأكبر من هذه التصوُّرات الساذجة والسطحية.

هل نجحت السينما في عرض هذه الظاهرة؟
عبر ما جرى استعراضه نستطيع أن نقول فيما عدا تجارِب الكاتب «وحيد حامد» والمخرج «يوسف شاهين»: إن السينما المصرية أخفقت في عرض المشكلة ومناقشتها على نحوٍ جادٍّ وعميق، وانزلقت في السطحية والنمطية، ولم تعطِ القضيةَ ما تستحقُّه من اهتمام، في حين كانت السينما العربية حاضرةً بقوةٍ في عرض هذه الظاهرة ومناقشتها بجدِّية وعُمق مع مستوًى فنِّي متميِّز، إذ قدَّمت السينما تونُسية في السنوات الأخيرة عددًا من الأفلام تُعدُّ من أفضل الأعمال التي تناولت ظاهرةَ التطرف والإرهاب، منها: «زهرة حلب» الذي حصد الكثيرَ من الجوائز العالمية في مشاركاته في أكثرَ من مهرجان دَولي ومحلِّي. يحكي الفيلم قصةَ أمٍّ ينضمُّ ابنها إلى أحد التنظيمات الجهادية، ويرحل إلى سوريا للقتال هناك، ثم تسافر خلفَه في محاولة لاستعادته؛ لكنه قابل برَّها بالعقوق والجحود ليقتلها بدم بارد. 

ومنها فيلم «ما نموتش» الذي تدور أحداثه بعد ثورة يناير 2011م، ويحكي قصةَ فتاتين متناقضتين، الأولى محجَّبة وترفض ابتزاز مديرها بخلع الحجاب أو تدنيسه، والأخرى تحلُم بعالم الفنِّ والتصميم، غير أن رغَباتِها وطموحَها يتعارضان وزوجَ المستقبل، وترفض الخضوعَ له، وتنفصل عنه انتصارًا لنفسها ولأحلامها. شخصيَّتان أظهرتا حالَ البلاد بين عَلمانيين وخطابهم الجريء، وإسلاميين بعضهم يقبل الحوارَ وبعضهم يستخدم القوةَ والعنف. وقد حصل الفيلم على عدَّة جوائزَ في مهرجانات عربية.

ومنها فيلم «فتوى» الذي يتحدَّث عن إبراهيم الذي عاد من فرنسا لدفن ابنه الذي مات في حادث درَّاجة بُخارية، ليكتشفَ أن ابنه مروان انضمَّ إلى أحد التنظيمات الجهادية، ويبدأ رحلةَ البحث عن حقيقة انضمام ابنه إلى هذه التنظيمات، ومَن قاده إلى التطرُّف. ومنها فيلم «آخر فيلم» الذي يحكي قصةَ شاب مُولع بالرقص والموسيقا، لكنه ينضمُّ إلى التيار السَّلَفي، ويعيش معاناة بين هِواياته التي يعشقها والحياة الجديدة القاسية التي فُرضت عليه. 

وقدَّمت السينما الجزائرية أفلامًا على غِرار «عطور الجزائر» الذي مُنع من العرض في الجزائر، ومع ذلك حصدَ العديد من الجوائز، ويروي قصةَ أبٍ قاسٍ وأمٍّ مهملة، ونغوص معهما في أعماق الأسرة وتفاصيل حياتها، ونرى الابنةَ كريمة الثورية والمتفتِّحة، وأخاها مرادًا زعيم أحد التنظيمات الجهادية، ونعرف الظروفَ التي أدَّت به إلى التطرُّف، وتطرق الفيلم إلى قضايا المرأة وما تواجهه من قيود ثقيلة في المجتمع.

ومنها أيضًا فيلم «أبو ليلى» الذي يحكي قصةَ سنوات العَشْرية السوداء، عبر تناول قصة شابَّين هما: لطفي وسمير، اللذين يَعمِدان إلى تتبُّع إرهابي اسمه أبو ليلى نفَّذ إحدى الجرائم في الحيِّ الذي يعيشان فيه. ومنها فيلم «بابيشا» وهو أنشودة الجمال في وجه القُبح، ويعرض مشكلة التطرُّف والإرهاب في الجامعة، وما تعانيه بطلاتُ الفيلم من قيود واضطهاد، إلا أن العمل قاوم هذا القُبحَ بصورة جمالية لم تتوافر في أكثر الأعمال التي تناولت هذه القضيةَ أو تطرَّقت إليها.

وقدَّمت السينما المغربية أفلامًا كان لها حضورٌ قوي في هذه الأزمة، على الرغم مما يُفرض عليها من محظورات وقيود، من ذلك فيلم «يا خيل الله» المقتبَس من رواية «نجوم سيدي مؤمن» التي تتناول الاعتداءاتِ الإرهابيةَ في الدار البيضاء عام 2003م، ويحكي الفيلم قصةَ أخوين؛ الأكبر حميد تاجر مخدِّرات، والأصغر عادل بائع خُضَر. ينضمُّ حميد إلى تنظيم إرهابي بعد أن التقى عددًا من الإرهابيين في السجن، ويرغب عادل في الانضمام إلى التنظيم أيضًا، لكن حميدًا يرفض، وبعد محاولات ينضمُّ عادل، ويبدأ التنظيمُ التخطيط لعملية إرهابية، ويشعر حميد بالندم، ويحاول ثنيَ أخيه عن هذا الفعل، ولكن عادلًا يصرُّ على تنفيذ العملية، ولا سيَّما بعد هرَب باقي أفراد التنظيم. يقف حميد أمام الفندق قبل التفجير، ويحاول تذكيرَ عادل بأمِّه وحُزنها عليه لو مات، وببشاعة ما سوف يفعله في أبرياء لا ذنبَ لهم، إلا أنه لم يستجب له، وينتهي الفيلم بالتفجير. وقد حصد الفيلم عددًا من الجوائز في مهرجانات دَولية.

ومنها فيلم «غير المغضوب عليهم» الذي يحكي قصةَ فِرقة مسرحية تطوف القرى والمدن لعرض أعمالها، ثم تختطفُها إحدى الجماعات الإرهابية التي ترى أن الفنَّ حرام، وتُحتجَز الفرقة في انتظار فتوى أمير الجماعة بقتل أعضائها، وفي أثناء وجودهم مع أعضاء التنظيم يدور حوار بينهم يتأرجح بين التفاهم والانغلاق. وقد تعرَّض الفيلم لانتقادات من قِبل الإسلاميين، إذ رأوا أن فيه إهانةً لهم بإظهارهم حاقدين لا يقبلون الحوار.

ختامًا نجمل القول: إن ظاهرة الإرهاب مستمرَّة، وما زالت تحاصرنا، والتصدِّي لها واجبٌ وطني وإنساني، ووظيفة الفنون والثقافة تأتي في مقدِّمة الوسائل في حربنا على التطرُّف والإرهاب، ولا بدَّ أن يعِيَ ذلك كلُّ فنَّاني الوطن العربي ومثقَّفيه، وأن يكون التصدِّي لهذه الحرب أكثرَ جدِّية وعُمقًا، ولا مجالَ لاستغلال هذه الأزمة في حصد نجاح تجاري، أو سَبق إعلامي، فكلُّنا في مرمى الخطر.