المجتمعُ بمكوِّناته المتماثلة والمتباينة هو الحاضنُ الأول للأفراد الذين ينشَؤون فيه، ويحاولون البحث عن صيغ يقدِّمون بها أنفسهم، ويعبِّرون عن أفكارهم وتطلُّعاتهم للوصول إلى غاياتهم، ويسعَون إلى تحقيق القَبول الذي يساعدهم على الاستمرار والبقاء، والارتقاء الدائم نحو ما يبتغونه. أو يجنَحون أحيانًا للاختلاف عن محيطهم؛ سعيًا لبلوغ ما يريدون؛ لتنشأ من ذلك ظواهرُ وقضايا مختلفة المضمون، كقضيَّتي التماثل والتمايز.

الأهمية والمآلات  
تتجلَّى أهميةُ قضيَّتي التماثل والتمايز في تحليل عَلاقة التنظيمات المتطرفة بالمجتمع كلِّه؛ أي المجتمع الواقع خارجَ تجمُّعاتهم المـُحكَمة؛ سرِّية كانت أم علنية، فإن الجماعاتِ والتنظيمات المتطرفةَ التي توظِّف الإسلامَ -على سبيل المثال- للحصول على سُلطة سياسية، لم تهبِط من السماء، ولم تخرج من جوف الأرض، إنما نبتت في رحم المجتمع ورحابه، ففيه وُلد أعضاؤها، ومع أبنائه اختلطوا، وإليه يوجهون خطابهم، ويستهدفون أهله تجنيدًا واستقطابًا، ويهيِّئون المجالَ العام لتقبُّل مشروع هذه الجماعات، حتى يكونَ الناس سندًا لهم في تحقيق مآربهم، وإن اختلفت السُّبل، وتنوعت الأساليب، وتبدَّلت الظروف. 

وتنبع هذه الأهميةُ من أن (المسافة) بين الجماعات الدينية السياسية وبقية أفراد المجتمع، و(المساحة) التي يستحوذون عليها من المجال العام، هما اللذان يبيِّنان ما يرتبط بوضعها الحالي، ومآلها في المستقبل القريب، وربما البعيد. 

ولا بدَّ قبل ذكرها من تأكيد أن هذه القضيةَ محسومة في التجلِّي الأول للإسلام، أو ما يمكن أن نسمِّيَه «الطريق المستقيم» أو «صحيح الدِّين» أو «جوهره»، ويتَّكئ أساسًا على ظاهر النصِّ القرآني وباطنه، وسنَّة النبي عليه الصلاة والسلام؛ فالإسلام يدعو المسلمَ إلى التعاون على البِرِّ مع المسلمين وغير المسلمين، في مساحات شاسعة من التسامح والعدل وإغاثة اللهفان، وإدخال السرور على النفوس والقلوب.

المفهوم والمحدِّدات
هناك عدَّة مسائلَ تحدِّد (التماثل)؛ أي الاندماج في البنية المجتمعية بمظهرها وجوهرها، وتحدِّد (التمايز)؛ أي صناعة مجتمع خاص مغلق في ركاب المجتمع العريض، على مستوى الممارسة والفعل. ويمكن ذكرُها على النحو الآتي:
  1. الفكرة: ثَمَّة فارقٌ بين أفكار نظرية، تصنعُها بعض تصوُّرات الفقه وتأويل النص الديني، ترى ضرورةَ الاندماج مع المختلفين، وتدعو إلى التماس العذر لهم واستيعابهم، وبين تلك التي تستبعدهم ولا تعذِرُهم؛ بل تحاسبهم وتنبِزُهم بلقب «الجاهليين» أو «أتباع الظالمين»، وتواجههم بمسألة «التترُّس» التي تعني تسويغَ قتل الأبرياء إن وقعوا في مَرمى نيران التنظيمات الإرهابية، وتستهدف مَن تراهم خصومَها وأعداءها.  وكلَّما اقتربنا من التنظيمات التي تمثِّل «الاسلام السياسي» دنونا من (التمايز) والعكس صحيح، فهناك جماعاتٌ ذات مشروع سياسي طويل المدى تُدرك أنها لن تحقِّقَ هدفها إلا باستمالة الناس، والتحايل عليهم، ولا سيَّما إن كانت تعتمد على «وسيلة الانتخابات»، سواءٌ كانت على مستوى القاعدة المتمثِّلة في قُوى المجتمع المدني ومؤسساته، أو على مستوى القيادة المرتبطة بالحكومة والبرلمان.
  2. طبيعة التنظيم: تتباينُ طبيعة التنظيم بين سرِّية وعلنية، وأخرى تجمع بين السرِّي والعلني؛ فالتنظيماتُ السرِّية تتخذ العنف وسيلةً للتأثير والتغيير، ولا يشغلها التماثلُ الطبيعي مع المجتمع إلا من قَبيل مراوغة أجهزة الأمن وتضليلها، فهي في حقيقتها تنزعُ إلى الانعزال والانكفاء بغيةَ حماية نفسها من الملاحقة. أما الجماعاتُ العاملة في العلن فتتقرَّب من الناس؛ بدافع القيام بشروط الدعوة، ليكونوا لها ظهيرًا اجتماعيًّا وسياسيًّا. وأما الجماعاتُ التي تجمع بين السرِّي والعلني، فتجعل المنضوينَ تحت المسار الأول في تمايز، والبقية في تماثل، ومن المؤكَّد أن كلَّ هذا يحدُث بانتظام.
  3. وسيلة التمكين: يهدِفُ التنظيم المتطرف أو الإرهابي إلى بلوغ السُّلطة، مستخدمًا القوة المسلَّحة، ولذلك فليس يعنيه أن يندمجَ مع المجتمع إلا لأجل تجنيد عناصرَ جديدة، ودمجها في تنظيم مُحكَم بعد مرحلة اختبار، أما إذا كانت وسيلةُ الوصول إلى الهدف اللجوء إلى القواعد العريضة كي تقرِّرَ مصير هذه التنظيمات بواسطة الانتخابات، فإن الأمر سيكون مختلفًا كثيرًا. 
  4. السياق القائم: تحدِّدُ الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمرُّ بها الدولة اختيارَ الجماعات والتنظيمات الإسلامية المسيَّسة لمسار التمدُّد في أعطاف المجتمع أو الانكماش. إذ يقرِّر وجودُ تعدُّدية سياسية من عدمه، وحدوثُ قَبول اجتماعي أو نفور، وتوافرُ قدُرات مالية للتنظيم أو عَوَزه، اختيارَه لأيٍّ من هذين المسارين.
  5. موقف الآخرين: قد يكون المجتمعُ نفسه بقُواه الفاعلة مستعدًّا لجذب هذه التنظيمات إلى مساحات واسعة من التماثل، أو الضغط عليها وطردها في اتجاه التمايز الإجباري. وقد تأثَّرت المجتمعاتُ في هذا بسلوك التنظيمات الدينية السياسية ذاتها، وما إذا كانت شديدةَ العنف أو معتدلةً نسبيًّا، وكذلك بالدعاية الإعلامية المضادَّة لها، وموقف السُّلطة الحاكمة منها، وعَلاقة الناس بهذه السلطة.

الأنواع والتجلِّيات
نجد في أمثلة أخرى لدى الطوائف والأديان المختلفة أنَّ بعضَ الجماعات مارست نوعًا من العُزلة عن المجتمع القائم، سواءٌ جسديًّا أو شعوريًّا، فقرأنا عن ثقافة «الجيتو» التي لم تقتصر على اليهود في أوروبا في القرون الوسطى؛ بل امتدَّت إلى ديانات أخرى، لنجدَ جماعة «الأميش» في أمريكا التي ترفض المجتمعَ المعاصر، وتعدُّه خروجًا على جوهر المسيحية، فتسعى إلى العيش في الغابة التي ترى فيها عودةً إلى الطبيعة. ووجدنا ما تُسمَّى «جماعة المسلمين» التي أُطلق عليها أمنيًّا وإعلاميًّا في مصر «التكفير والهجرة»، والتي دعا مؤسسها «شكري مصطفى» أنصاره إلى اعتزال المجتمع تمامًا، زاعمًا كفره، وتكوين نَواة اجتماعية من أنصاره في منطقة نائية حتى يشتدَّ عودُهم، ويكونوا قادرين على إخضاع المجتمع لفكرهم، ثم بلوغ السُّلطة.

وهناك من حاول أن يمسكَ العصا من منتصفها في هذه المسألة، فأقرَّ التماثل جسدًا، والتمايز شعورًا. ففكرةُ «العزلة الشعورية» التي نادى بها سيِّد قطب، وهو من أهمِّ المنظرين في تاريخ «جماعة الإخوان المسلمين»، و«السلفية الجهادية»، تقوم على أن يخالطَ عضو الجماعة كلَّ مَن حوله جسدًا، يحاورهم ويداورهم ويشاركهم في الغُنم والغُرم، لكنَّه يحرِصُ على أن تبقى مشاعره مجافيةً لهم، رافضة لاعتقاداتهم وأفعالهم؛ لأنهم في نظره يعيشون في «جاهلية جديدة». ورأى قطب وأتباعُه أن هذا «الانفصال» ضروريٌّ كي تبقى نفس «الإخواني» مخلصةً للجماعة وتصوُّراتها، التي يزعم أنها تمثِّل الإسلام الحقيقي، كما كان سائدًا في صدر الإسلام.

المقاصد والمسارات
ترتبط قضيةُ «التماثل والتمايز» لدى الجماعات المتطرفة بمسارَين أساسيَّين هما الدعوة والسُّلطة:
 أما الدعوة: فتمثِّلُ المقصِدَ الأسمى من «النبوَّة»، ومن أجل هذا تعمل بعضُ الجماعات التي ليس لها مشروعٌ سياسي، ويفرِضُ عليها ذلك أن تتفاعل مع الآخرين؛ لأنهم الجمهورُ الذي تقوم فيه الدعوة أو البلاغ، وإليه يسعى الدعاةُ في سبيل هداية المجتمع، باستمالتهم وإقناعهم بمضمون الدعوة.
ويجب في هذا المسار دفعًا لأيِّ لَبْس، أن نبيِّن ما تقتضيه دعَواتُ الانعزال الإيجابي للمتصوِّفة والرُّهبان، فهؤلاء وإن امتازوا من سائر الناس، فإن ذلك ليس استعلاءً منهم ولا غَبْنًا للمجتمع ولا كفرًا به؛ بل هو بحثٌ عن مكان تحقِّق فيه الروحُ صفاءها وسموَّها، حتى تصلَ إلى خالص المحبة للناس، والتسامح معهم، ورجاء الخير لهم. وفي هذا تماثلٌ من نوع آخر، إن لم يكن بالتواصل الجسدي فإنه بفيض المشاعر الإيجابية تجاه الآخرين. 
وأما السُّلطة: فهي وثيقةُ الصِّلة بالتماثل والتمايز، سواءٌ من حيث الوصول إليها، أو الاستمرارُ فيها. فالحكمُ لا يدور في فراغ، إنما يرفع مكانة بعض الناس دون سائرهم، ولا يمكن لمن جلسوا على كراسي الحكم أن يقاطعوا مَن يحكمونهم، كما أن وصول شخص أو فئة إلى السُّلطة لا يكون إلا بمعيَّة الناس.

الجذور والامتدادات
طُرحت هذه القضيةُ طَوالَ تاريخ المسلمين، وإن كانت بطرائقَ مختلفة، تغطِس وتطفو، وتخبو وتزدهي، وَفقًا للمسار الذي تأخذه عَلاقةُ الإسلام بالسياسة في بنيتها العليا المتعلِّقة بالسُّلطة السياسية وتصوُّراتها وانحيازاتها ورغَباتها وتصرُّفاتها. ففي الصراع المرير على الحُكم ظهرت جماعاتٌ باطنية تؤمن بـ (التَّقِية) تمارس نوعًا من العُزلة الشعورية. وفي المقابل ظهرت جماعاتٌ متطرفة تؤمن بالوصول إلى السُّلطة عَنوةً، فكان عليها أن تتمايزَ عن المجتمع ولو قليلًا، حتى تضمنَ سرِّية عملها، وسلامة أفرادها، حتى يُكملوا مهمَّتهم العنيفة.

ومع التحديث السياسي النسبي المعاصر، لم تخلُ الساحة الاجتماعية والسياسية في أيِّ وقت من أولئك الذين حاولوا جذبَ الجماعات الدينية السياسية إلى (التماثل)، سواءٌ دعَوا إلى ذلك تعبيرًا، أو قاموا به تدبيرًا، بواسطة القوانين والإجراءات السياسية. وتستجيب بعضُ هذه الجماعات أحيانًا إلى هذه الدعوة، وتتماهى في أعطاف المجتمع وترتيبات السياسة. ويرفض بعضُها ذلك رفضًا قاطعًا، ويتضح أحيانًا أن بعض من قبلوا بالدمج لم يفعلوا ذلك إلا على سبيل المناورة، دون أن يتخلَّوا عن أفكارهم التي تؤمن بالتمايز، سواءٌ كان ذلك نابعًا من شعور زائف بالاصطفاء، أو طمعًا في مزيد من القوة تحكمُه قوانين صراع «الإسلام السياسي» على السُّلطة والثروة والمكانة.

وستظلُّ هذه القضية تفرض نفسَها على جدول أعمال الحركة الإسلامية السياسية، سواءٌ من يميل منها إلى حمل السلاح تحت لافتة «الجهاد»؛ بغيةَ التغيير بالقوة القاهرة، أو بإحضار الجمهور إلى المشهد اعتمادًا على الاحتجاج الذي يُراوح بين التظاهر والثورة، أو بطريقة أخرى وهي الانتخابات. ويمكن أن تقودَ التجرِبة بعض التنظيمات التي ستظهر مستقبلًا، في ظلِّ توالد الإسلام السياسي وانقسامه بلا توقف، إلى التخلِّي شيئًا فشيئًا عن فكرة التمايز لصالح التماثل، ولا سيَّما مع ما أحدثته ثورةُ الاتصال من إمكانات ضخمة للتحاور والتفاعل في العالم الافتراضي، والعمل على احتمال نقله إلى دنيا الواقع، وهي مسألةٌ لم تكن متاحةً من قبلُ؛ إذ كانت قياداتُ بعض التنظيمات تستطيع أن تقيم سورًا حديديًّا للمُنضوين تحت لوائها، فيعيشوا في عُزلة عن سائر الناس.

ومن المؤكَّد أن هذا لا يعني اختفاءَ هذه المسألة في المستقبل المنظور، ولا سيَّما في ظلِّ ربط أفكار بعض الجماعات والتنظيمات بتصوُّر «الاصطفاء» أو «استعلاء الإيمان» أو «العُصبة المؤمنة» أو «جماعة المسلمين» أو «الفرقة الناجية»، وكلُّها مصطلحات راسخة لديها، يؤدِّي الاقتناع بها، والعمل على تطبيقها، إلى صناعة (التمايز) على حساب (التماثل)، مما يجعل تيَّار «الإسلام السياسي» معضلةً اجتماعية وسياسية؛ لأن المتحكِّمين في قراره ينظرون دائمًا باستعلاء وتكبُّر إلى الجماعات الخارجة عن جماعاتهم على اختلاف مراتبها في التطرف والاعتدال.